حين نتحدث عن القطاع غير الربحي، نجد أصواتاً كثيرة لها تأثير كبير في مساره: قيادات الجهات الإشرافية والرقابية والمانحون وأعضاء المجالس العليا في المنظمات، وقيادات المجتمع بشكل عام. وهؤلاء لهم ثقلهم، ورأيهم يصل بعيداً ويُبنى عليه كثير من القرارات والتشريعات والتوجهات.
ولا شك أن كثيراً منهم يحمل نية صادقة في تطوير
القطاع، ولديه من الخبرة ما يستحق الاستماع إليه. لكن ما يستوقفني أحياناً هو تلك
المسافة التي تتشكل بين من
يُقيّم ومن يعمل، حين يصبح الحكم على القطاع أسهل من فهم واقعه.
القطاع غير الربحي فيه أخطاء وتحديات، هذا صحيح ولا أحد ينكره. لكن فيه أيضاً نجاحات حقيقية، وممارسات مميزة، وقيادات فاعلة تعمل بصمت وتصنع أثراً. والنقد في أصله صحي ومطلوب، بل هو جزء من أي عملية تطوير حقيقية.
الإشكال يبدأ حين تبني القيادات حكمها ورأيها على تجارب ثم تُعمّم، أو حين تُستعار معايير من قطاعات أخرى وتُطبَّق مباشرة دون مراعاة لطبيعة العمل الخيري، أو حين يُختصر كل شيء في أرقام وتقارير بينما الميدان أعقد من ذلك بكثير.
ويظهر ذلك أثناء النقاش في الاجتماعات أو على أطراف المؤتمرات أو الندوات وورش العمل.
ويكبر التحدي حين يُحصر الفهم والصواب في فئة معينة،
ولا يُسمع لمن يعملون في الميدان يومياً - بإمكاناتهم المتفاوتة وتحدياتهم
المتراكمة - كما ينبغي.
لا أنكر وجود ضعف في القطاع، فقدرات القطاع هي انعكاس لقدرات المجتمع نفسه. فالقطاع لا يعمل بمعزل عن بيئته، بل يستقطب كوادره ومتطوعيه وموارده من هذا المجتمع بما فيه من إمكانات وما عليه من قيود.
وأعتقد أن نظرة القيادات هذه ليست سوء نية في الغالب.
لكن من يجلس في موقع القرار أو المال يرى المشهد من زاوية مختلفة، وهذه الزاوية قد
لا تُظهر له التفاصيل التي يعرفها من يعيشها يومياً. كذلك فإن ضغط المسؤولية
والمساءلة يدفع للحذر والتشدد، وهذا مفهوم، لكنه أحياناً يتحول إلى افتراض مسبق
بالتقصير. أضف إلى
ذلك أن صوت الميدان لا يصل دائماً كما هو، بل يمر عبر تقارير رسمية وقنوات تُهذّب
الكلام وتُجمّله حتى تضيع الصورة الحقيقية.
هنا أستحضر قول الحطيئة حين قال:
أَقِلّوا
عَلَيهِم لا أَبا لِأَبيكُمُ مِنَ
اللَومِ أَو سُدّوا المَكانَ الَّذي سَدّوا
أولَئِكَ قَومٌ إِن بَنَوا
أَحسَنوا البُنى وَإِن عاهَدوا أَوفَوا وَإِن عَقَدوا شَدّوا
هذا البيت يختصر ما أريد قوله: مع النقد يجب أن
تُستحضر تحديات الواقع وقدرات الناس، وإلا فليقف الناقد في المكان الذي يقفون فيه
ويواجه ما يواجهون. فالميدانيون في القطاع يعملون بما أتيح لهم، ويواجهون ما لا
يظهر في الاجتماعات، ويبتكرون حلولاً أحياناً من لا شيء.
المطلوب ليس إسكات النقد ولا تبرير الأخطاء. المطلوب
أن يُصاحب النقدَ إنصافٌ، وأن يُدرك من يُقيّم أن خبرة الميدان لا تقل عن خبرة
الإدارة والتخطيط. المطلوب قنوات تُوصل الصوت الحقيقي من الميدان، لا تقارير
مُنمّقة. المطلوب أن من ينتقد يكون مستعداً أيضاً أن يدعم ويُعين، لا أن يُصنّف
ويحكم فقط. والمطلوب زيارات حقيقية يُستمع فيها أكثر مما يُتكلم.
القطاع يحتاج من يُصحح مساره، لكنه يحتاج أيضاً من
يُقدّر جهد العاملين فيه. والقيادات حين تجمع بين الأمرين، لا تُصلح فقط، بل تُلهم.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
