الكتابة الإدارية في الجمعيات الأهلية: كيف تصبح لغة الحوكمة وبناء الثقة؟

ع ع ع

في القطاع غير الربحي، لا تكفي النوايا الطيبة ولا كثرة المبادرات؛ ما لم تُترجَم إلى خطابات رسمية واضحة، ومحاضر دقيقة، وتقارير موثوقة. تستلهم هذه القراءة من «دليل الكتابة الإدارية» الصادر عن صندوق الشهداء والمصابين والأسرى والمفقودين، لتقدّم إطارًا عمليًا للجمعيات الأهلية ومنظمات القطاع غير الربحي: من مبادئ الصياغة الإدارية السليمة، إلى نماذج الخطابات والمذكرات ومحاضر الاجتماعات والتقارير، وصولًا إلى الأخبار والإعلانات. الهدف هو تحويل الكتابة الإدارية من «روتين ورقي» إلى أداة حوكمة، وشريك صامت في بناء السمعة، وتعزيز ثقة المانحين والمستفيدين والجهات الرقابية.


أولًا: لماذا تُعدّ الكتابة الإدارية قضية استراتيجية للجمعيات الأهلية؟

في الجمعيات الأهلية، تمر أغلب اللحظات الحاسمة عبر ورقة أو بريد إلكتروني:

  • طلب دعم من مانح.

  • مخاطبة جهة إشرافية.

  • محضر اجتماع لمجلس الإدارة.

  • تقرير يُرفع للجهة الممولة أو للهيئة العامة للأوقاف أو المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي.

هنا لا تعود الكتابة «مهمة سكرتارية»؛ بل تصبح لغة الحوكمة: ما يُكتب يُحاسَب عليه، وما لا يُوثَّق كأنه لم يحدث.
«دليل الكتابة الإدارية» يقدّم مرجعية يمكن للجمعيات الأهلية أن تعيد بها ترتيب بيتها الكتابي، بحيث تعكس مراسلاتها مستوى نضجها المؤسسي واحترامها لأنظمتها وشركائها.


ثانيًا: خمسة مبادئ للكتابة الإدارية في القطاع غير الربحي

يضع الدليل مجموعة ضوابط عامة تصلح أساسًا لأي سياسة كتابية داخل الجمعيات:

  1. سلامة اللغة بوصفها احترامًا للمتلقي

    • نصوص خالية من الأخطاء الإملائية والنحوية، بعيدة عن التعقيد البلاغي.

    • في جمعية تتحدث باسم المتبرعين والمستفيدين، اللغة السليمة ليست ترفًا؛ إنها احترام لرسالة الجمعية ولقارئ الخطاب.

  2. الموضوعية والحياد

    • خطابات الجمعيات ينبغي أن تنقل الوقائع كما هي، لا أن تستغرق في الانفعال أو تبرير الذات.

    • عند طلب دعم أو شرح تعثر، لغة الأرقام والحقائق أبلغ من لغة الانطباعات.

  3. الإيجاز مع الوضوح

    • الجهات المانحة والرقابية تستقبل عشرات المخاطبات يوميًا؛ الرسالة الفعالة هي الأقصر والأوضح والأكثر تنظيمًا.

    • صفحة واحدة مرتبة قد تفتح بابًا لدعم كبير، بينما خطاب طويل مضطرب يغلق الأبواب قبل أن تبدأ.

  4. الدقة والتوثيق

    • أي رقم أو تاريخ أو نسبة قد تُبنى عليه قرارات تمويل أو تقييم؛ لذلك تُذكر الأرقام بدقة، وتُربط – عند الحاجة – بنصوص نظامية أو مستندات مرفقة.

  5. اللباقة وفق الأعراف السعودية

    • استخدام الألقاب والصيغ المناسبة عند مخاطبة الوزراء، أو الأمناء العامين، أو رؤساء المجالس.

    • الجمعيات تمثّل المجتمع أمام الدولة والقطاع الخاص؛ وأبسط صور الاحترام تبدأ من جملة الافتتاح والتحية.


ثالثًا: الخطاب الإداري… بوابة الجمعية إلى شركائها

يتعامل الدليل مع الخطاب الإداري على أنه الواجهة الرسمية الأولى للمؤسسة. يمكن للجمعيات الأهلية أن تعيد قراءة هذا الباب بما يخدم واقعها اليومي:

أنواع الخطابات في بيئة الجمعيات

  • خطاب صاعد: من الجمعية إلى الوزارة أو المركز الوطني أو الهيئة العامة للأوقاف أو المانحين.

  • خطاب نازل: من مجلس الإدارة أو الأمانة العامة إلى الفروع أو اللجان أو الفرق التطوعية.

  • خطاب رد أو إلحاق: يتناول مراسلة سابقة برقمها وتاريخها ويضيف عليها أو يوضح ما طُلب.

عناصر الخطاب الجيد في الجمعية

  1. موضوع محدّد في أعلى الصفحة (مثل: طلب اعتماد لائحة، طلب منحة، إفادة حول مشروع…).

  2. مخاطبة رسمية تراعي اللفظ المناسب للمستوى الوظيفي أو الصفة الاعتبارية.

  3. ديباجة قصيرة تربط الخطاب بسياقه عند الحاجة («إشارة إلى…»).

  4. مضمون منظم: عرض موجز للواقع، ثم الطلب أو المقترح بصياغة واضحة قابلة للتنفيذ والقياس.

  5. خاتمة لبقة مع التوقيع من صاحب الصلاحية (رئيس المجلس، المدير التنفيذي، المفوض بالتوقيع)، مع الإشارة للجهات المزوّدة بنسخ.

عندما تعتمد الجمعية نمطًا موحدًا لهذه العناصر، يصبح من السهل تتبع المكاتبات، ومراجعتها، وحمايتها من سوء الفهم.


رابعًا: المذكرة الداخلية ومحضر الاجتماع والتقرير… ذاكرة الجمعية الحية

1. المذكرة الداخلية

في الجمعيات النشطة، تتدفق الملاحظات والموافقات عبر البريد أو المنصات الرقمية. المذكرة الداخلية هي الصيغة التي تحوّل هذه التدفقات إلى مسار رسمي:

  • تستخدم لرفع توصية، أو طلب موافقة، أو توثيق توجيه من المدير إلى فريقه.

  • تُفتتح بجملة بسيطة («أشير إلى…»، «أود إفادتكم بأن…») ثم عرض موجز، فطلب محدّد، وخاتمة قصيرة.

اعتماد نموذج موحد للمذكرات يساعد في ضبط المسؤوليات داخل الجمعية، ويمنح كل قرار أثرًا مكتوبًا.

2. محاضر الاجتماعات

مجالس إدارات الجمعيات واللجان المتخصصة تعقد اجتماعات مكثفة، لكن قيمة هذه الاجتماعات تتوقف على جودة محاضرها. الدليل يقترح بنية واضحة يمكن للجمعيات تبنّيها:

  • رقم الاجتماع وتاريخه ومكانه ووقته.

  • أسماء الحاضرين والمعتذرين.

  • جدول الأعمال.

  • لكل بند: ملخص النقاش، والقرار أو التوصية، والجهة المسؤولة، والمدة الزمنية للتنفيذ.

بهذا الشكل يصبح محضر الاجتماع أداة متابعة عملية، وليس حصرًا لما دار من حديث.

3. التقارير الإدارية والبرامجية

التقارير في الجمعيات ليست «مطلبًا ورقيًا للجهة المشرفة» فقط؛ بل هي المادة الخام لصناعة الثقة مع المانحين والرعاة والمجالس.

  • يلفت الدليل إلى ضرورة وجود: عنوان واضح، وتواريخ، وملخص تنفيذي، وبيانات موثوقة، وتحليل للنتائج، وتوصيات عملية.

  • في القطاع غير الربحي، يمكن إضافة زاوية خاصة: الأثر الاجتماعي إلى جانب الإنجاز التشغيلي والمالي.

تقرير مكتوب بلغة مهنية، ومدعوم بأرقام صحيحة، قادر على فتح شراكات ومنح جديدة، لأنه يجيب بهدوء عن سؤال المانح: «ماذا فعلتم بما دعمناكم به؟».


خامسًا: الأخبار والعروض التقديمية… صورة الجمعية في الفضاء العام

الأخبار والإعلانات

يؤكد الدليل أن الخبر أو الإعلان الرسمي جزء من الكتابة الإدارية، لا مجرّد مادة إعلامية.

  • الخبر الجيد في الجمعية الأهلية يلتزم بالموضوعية، ويتجنب المبالغة في الوعود أو الأرقام.

  • الإعلان عن فعالية أو حملة تبرعات ينبغي أن يكون موجزًا، واضحًا في الزمان والمكان والهدف، ويحترم هوية الجمعية وقيمها.

العروض التقديمية

سواء في لقاء مع مانح، أو عرض أمام مجلس الإدارة، أو مشاركة في منتدى؛ الشرائح التقديمية أصبحت جزءًا من لغة المؤسسة.

  • يشدّد الدليل على وضوح العناوين، وترتيب الأفكار من المقدمة إلى الخاتمة، واستخدام لغة الأرقام والبيانات بدل النصوص المطوّلة.

  • في المنظمات غير الربحية، يمكن للعروض التقديمية أن تحوّل قصص المستفيدين والأثر إلى مادة بصريّة مقنعة، إذا احترمت قواعد الإيجاز والدقة.


سادسًا: التفاصيل اللغوية التي ترفع منسوب الاحتراف

يخصّص الدليل مساحة مهمة لقضايا لغوية دقيقة تبدو صغيرة، لكنها تصنع الفرق في وثائق الجمعيات:

  • التمييز بين همزة الوصل والقطع، وضبط الهمزة المتوسطة والمتطرفة.

  • معرفة مواضع التاء المربوطة والتاء المبسوطة.

  • الاستخدام الصحيح لعلامات الترقيم؛ الفاصلة والنقطة وعلامة الاستفهام والنقطتين.

  • قواعد كتابة الأعداد في النصوص الرسمية، وأهم الأخطاء الشائعة في المكاتبات.

لجمعية تريد أن تظهر بمظهر مهني أمام شركائها، هذه التفاصيل ليست «تدقيقًا لغويًا ثانويًا»، بل جزء من صورتها المتكاملة.


من دليل متداول إلى سياسة معتمدة

يمكن للجمعيات الأهلية أن تحوّل ما في هذا الدليل إلى سياسة رسمية للكتابة الإدارية عبر مسار عملي من خمس خطوات:

  1. إقرار مبدأ موحّد للكتابة

    • اعتماد هذه المبادئ الخمسة (سلامة، موضوعية، إيجاز، دقة، لباقة) كمرجعية ملزمة لكل من يكتب باسم الجمعية.

  2. تصميم نماذج رسمية داخلية

    • نموذج خطاب، نموذج مذكرة، نموذج محضر اجتماع، نموذج تقرير، نموذج خبر/إعلان، وتعميمها على الفرق.

  3. تدريب الكوادر

    • تقديم دورات داخلية دورية في الكتابة الإدارية، مستلهمة من الدليل، موجهة للموظفين والقيادات واللجان.

  4. ربط الجودة الكتابية بالحوكمة

    • إدخال مؤشرات تتعلق بجودة التوثيق والكتابة في تقييم الإدارات والبرامج.

  5. مراجعة دورية وتحديث مستمر

    • مراجعة النماذج والسياسات كل عام أو عامين، لتتواكب مع المتطلبات النظامية والتقنية الجديدة.

بهذه الخطوات، يتحول «دليل الكتابة الإدارية» من ملف محفوظ في مجلدات الأجهزة إلى جزء حي من بنية الحوكمة في الجمعيات الأهلية، يتكامل مع اللوائح والهيكل والبرامج ليقدّم صورة مؤسسة تعرف ماذا تقول، وكيف تكتبه، ولمن ترسله، وبأي درجة من المهنية.


هذه القراءة صادرة عن «البنك الثالث | موسوعة الإثراء المعرفي للقطاع غير الربحي»، وتقدَّم بوصفها تفسيرًا وتحويلًا تطبيقيًا لمحتوى «دليل الكتابة الإدارية»، مع التأكيد أن النص الأصلي وحقوقه الأدبية تعود لصندوق الشهداء والمصابين والأسرى والمفقودين.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top