بودكاست حكاية القطاع: حلقة إدارة الجمعيات… بلا إدارة!

ع ع ع

في موسمٍ قرر أن يكون عنوانه كبيرًا: "حكاية القطاع"، جاءت هذه الحلقة بعنوان لا يقل طموحًا:
إدارة المنظمات غير الربحية.
لكن ما حدث في التسجيل يصلح أن يُدرَّس تحت عنوان آخر تمامًا:

"الاستطراد كمنهج حياة… وتدمير منهجي لجدول الأعمال".

الحلقة تحوّلت من محاولة لفتح ملف الإدارة، إلى جلسة طويلة من "تست مايك"، ومصالحة مع النقد، وطواف حر حول المنح، والاستراتيجيات، والمانحين، والبيانات، والزمالات، وتجارب السفر… ثم تذكّر متأخر أن العنوان الأصلي كان عن إدارة المنظمات لا عن تاريخ معاناة المايك والماك.

هذا نقدٌ لا يطعن في قيمة المقدمين ولا في خبرتهم – بل العكس تمامًا – لكنه يحاول أن يقول بهدوء (وبشيء من السخرية المحبّة):
القطاع الذي يطالب بالإدارة، يحتاج أن يبدأ من إدارة حلقاته الحوارية أولًا.


أولًا: 12 دقيقة إدارة صوت… بلا صوت عن الإدارة

يفتتح الثلاثي حامد الذيابي ومحمد المطيري وهلال القرشي الحلقة بسلسلة متواصلة من: "تست مايك تست مايك"،
ثم يدخلون في فاصل عبثي ظريف عن الكاميرا، والشماغ، والجوال الجديد، والمايك الذي "فيه مشكلة اليوم"، ومزاح بالإنجليزي والعربي، قبل أن يسمع المستمع أي جملة تشبه موضوع الحلقة.

هذا العفوي/البيتي له سحره – مرة، مرتين – لكنه هنا يتحول إلى نموذج حي على المشكلة نفسها:

  • لا توجد مقدمة مضبوطة تعيد المستمع إلى العنوان.

  • لا يُقال للمستمع ببساطة: "اليوم سنتكلم عن: من يدير المنظمة؟ كيف تُدار؟ ولمن تُدار؟" إلا متأخرًا في آخر الحلقة تقريبًا، حين تظهر صيغة "مِكل / ميكل" بوصفها محاولة إنقاذ متأخر لترتيب الفوضى.

في حلقة عن "الإدارة"، كان من المتوقع أن نرى أقل شيء:

  • إدارة للوقت: قصّ فوضى التست والمزاح التقنية قبل النشر.

  • إدارة لتوقع المستمع: توطين الموضوع خلال أول 3 دقائق، لا بعد 30.

العفوية جميلة، لكن حين تتجاوز ربع الساعة قبل دخول الموضوع، تتحول من ميزة إلى دليل إدانة لعنوان الحلقة ذاته.


ثانيًا: ماذا قيل فعلًا؟ نقاط قوة تستحق ألا تضيع وسط الاستطراد

الإنصاف يقتضي الاعتراف: خلف هذه الفوضى السردية، هناك أفكار عميقة وخطيرة لو جُمعت في حلقة محكمة لخرجنا بإحدى أهم حلقات الموسم. من هذه النقاط:

1. نقد "بطاقة الأداء المتوازن" كأداة مُستنسخة

محمد يفتح نارًا – تستحق أن تُستثمر – على:

  • استخدام بطاقة الأداء المتوازن المولودة في سياق المصانع،

  • ثم استنساخها في الجمعيات الخيرية الصغيرة،

  • من دون تكييف حقيقي مع طبيعة العمل التنموي والاجتماعي.

ويُذكّر بأن الأدبيات الإدارية نفسها بدأت تشكك في ملاءمة هذه الأداة في كثير من السياقات، بينما القطاع غير الربحي عندنا ما زال يتعامل معها كأنها "اشهدوا أننا استراتيجيات".

في المقابل، يطرح حامد بديلًا أكثر نضجًا:
نظرية التغيير والإطار المنطقي ومنهجيات التفكير التنموي، رغم صعوبتها، لكنها:

  • أقرب للجوهر: لماذا نحن موجودون؟

  • وأقرب للسؤال الحقيقي: ما الأثر الذي نريد قياسه، لا فقط عدد الأنشطة؟

2. 80٪ من الجمعيات… ناشئة: قطاع في أول مراحله

حامد يطرح رقمًا مفصليًا:
قبل 2015 كانت الجمعيات أقل بكثير، اليوم نتحدث عن قرابة 7000 منظمة، ويقدّر أن نحو 80٪ منها جمعيات ناشئة.

هذه الجملة وحدها كانت تستحق أن تُبنى عليها حلقة كاملة عن:

  • معنى أن تكون جمعية "ناشئة" لا "مستقرة".

  • وكيف يجب أن تختلف أدوات التخطيط والحوكمة بين الناشئ والعملاق.

لكنها تظهر كجملة عابرة وسط زحمة استطرادات، بدل أن تكون محورًا بنائيًا للحلقة.

3. المساءلة الزائفة في المنح: ورقة التبرئة لا ورقة التعلّم

هلال - كعادته في الاقحام التسويقي المزعج للبنك الثالث - يربط بما نُشر في البنك الثالث عن "المساءلة الزائفة في المنح" وكيف:

  • تتحول متطلبات بعض المانحين إلى طبقات بيروقراطية هدفها الأساسي حماية المؤسسة المانحة،

  • أكثر مما تهدف إلى تعلّم مشترك مع الجمعية وتطوير الأثر.

ويحكي قصة البنك الثالث نفسه كمثال مضاد:

مشروع بدأ بلا رؤية ورسالة وأهداف مكتوبة، ومع ذلك حقق نجاحًا وتأثيرًا واضحًا،
في مقابل مشاريع بدأت بكل الأوراق، وانتهت إلى "استراتيجية في الدرج".

الفكرة هنا خطيرة:
الورق لا يُدير منظمات، بل يبرر قرارات بعد وقوعها.

4. دعوة إلى "منشآت" للقطاع غير الربحي

أحد أذكى المقترحات في الحلقة:

  • الدعوة إلى إنشاء كيان شبيه بـ "منشآت" لرواد الأعمال،
    لكن مخصص للقطاع غير الربحي:

    • يدعم الجمعيات الناشئة،

    • يبسط خطوات التأسيس،

    • يقدم محتوى وإرشادًا موحدًا،

    • ويوفر حاضنة مشتركة بدل تشتيت الجهود في مبادرات متناثرة عند المانحين.

هذه الفكرة، لو قُدمت في إطار واضح، لكانت رسالة سياسية/تنموية ناضجة موجهة لصانع القرار.

5. معركة البيانات والخصوصية

حامد يضع إصبعه على جرح مؤلم:

  • القطاع لا يملك منظومة بيانات موحّدة للمستفيدين والأثر.

  • هناك تكرار في تقديم الخدمات لنفس الأشخاص، لأن الجمعيات لا ترى بعضها البعض.

  • وبعض الجمعيات ما زالت تنشر تقارير تحتوي على أسماء المستفيدين وأرقامهم المدنية في انتهاك صريح لخصوصيتهم.

ويربط هذا كله بفكرة:

"لا يوجد قطاع غير ربحي بلا بيانات"

وهذه جملة تصلح أن تكون عنوانًا لمشروع وطني، لكنها مرت – كالعادة – مرور الكرام وسط موجة النكات والقصص.


ثالثًا: أين اختلّت الإدارة في حلقة الإدارة؟

إشكالية الحلقة ليست في نوعية الأفكار؛
بل في إدارة هذه الأفكار داخل الزمن المتاح والعنوان المعلن.

1. العنوان شيء… ومسار الحديث شيء آخر

العنوان: إدارة المنظمات غير الربحية
المحتوى الفعلي:

  • 15–20 دقيقة "مصارحة" مع الجمهور عن النقد والمدح والزمالات.

  • نقاش عميق – لكنه غير مؤطر – عن:

    • خطط المانحين،

    • فشل البرامج،

    • الاستراتيجيات والبطاقات،

    • الحوكمة الورقية،

    • startup mindset،

    • البيانات والخصوصية،

    • الجمعيات الكبيرة واستدامتها المالية،

    • التجارب الشخصية في السفر والزمالات.

كل محور من هذه المحاور يستحق حلقة مستقلة؛
لكن جمعها بهذا الشكل داخل عنوان "إدارة المنظمات" جعل الحلقة أشبه بـ:

"حكاية القطاع من فوق السحابة" لا من غرفة المدير التنفيذي.

المستمع الذي يريد جوابًا على سؤال بسيط:
"أنا مدير/ة جمعية صغيرة… ماذا أفعل غدًا؟"
لن يجد إجابة عملية قصيرة، بل سيخرج بحقيبة أسئلة أكبر.

2. نموذج "مِكل": إطار ذكي وصل متأخرًا

في آخر الثلث الأخير تقريبًا، يقدّم هلال إطارًا لطيفًا:

  • من يدير المنظمة؟

  • كيف تُدار؟

  • لِـمَن تُدار؟

هذا بالضبط ما كان يجب أن يُقال في الدقيقة الخامسة من الحلقة، لا في الدقيقة ما بعد التسعين.

الإطار ذكي، قابل للاستخدام في التدريب والاستشارات، وكان يمكن:

  • تقسيم الحلقة إلى ثلاث فصول وفقه.

  • ربط كل استطراد (المانحين، الاستراتيجيات، البيانات…) بأحد حروف "مكل".

  • العودة إليه في الخاتمة.

لكن ما حدث هو العكس:
الإطار استُخدم كمحاولة "تجميع شعث الحلقة" في النهاية، بدل أن يكون خيطًا ناظمًا من البداية.

3. غياب المستوى العملي: أين "مدير اليوم"؟

رغم كثافة الحديث عن:

  • المانحين،

  • الحوكمة،

  • البيانات،

  • الجمعيات الكبرى،

  • التجارب العالمية…

إلا أن ما غاب تقريبًا هو:

  • وصف يوم عمل واحد لمدير جمعية.

  • أمثلة عملية من نماذج ناجحة أو فاشلة في الإدارة الداخلية:

    • كيف تُدار الاجتماعات؟

    • كيف تُبنى فرق العمل؟

    • ما دور المجلس مقابل الإدارة التنفيذية؟

    • ماذا يعني أن تكون الجمعية "مستقرة" أو "متضخمة" إداريًا؟

الحلقة ظلت في سماء "السياسات والمنظومة" أكثر من نزولها إلى أرض "الممارسات اليومية".


رابعًا: ماذا نتعلم تحريرياً للحلقات القادمة؟

كي لا يتحول النقد إلى جلد، يمكن تحويل هذه الحلقة إلى مختبر تعلّم لبودكاست حكاية القطاع ولغيره من محتوى القطاع:

1. دقيقة صمت تقنية… قبل النشر

  • كل "تست مايك" و"ماك فيه مشكلة" مكانها الطبيعي قبل زر التسجيل أو بعده، لا في أذن المستمع.

  • القصّ التحريري ليس خيانة للعفوية؛ بل هو أعلى درجات احترام وقت الجمهور.

2. مقدمة محكمة لا تتجاوز 3–5 دقائق

في حلقات العناوين الثقيلة (إدارة، حوكمة، استدامة…) يُفضّل أن تبدأ الحلقة دائمًا بـ:

  1. سؤال مركزي واضح.

  2. المحاور الرئيسية / الإطار (مثل "مكل").

  3. ربط سريع بالواقع السعودي (المركز الوطني، أعداد الجمعيات…).

ثم يُسمح بعد ذلك بالعفوية، لكن من "داخل" الموضوع لا خارجه.

3. فقرة ثابتة: "صندوق أدوات المدير/ة"

اقتراح عملي للبودكاست:

في كل حلقة ذات طابع إداري، تُخصَّص 10 دقائق في الثلث الأخير بعنوان
"صندوق أدوات المدير اليوم"
يُقدم فيها الضيوف:

  • 3 أشياء يبدأ بها المدير فورًا.

  • 3 أشياء يتوقف عنها فورًا.

بهذا يضمن المستمع أنه مهما استدرتم في السماء الفكرية، سيخرج في النهاية بشيء يطبّقه يوم الأحد في مكتبه.

4. استثمار الأفكار الثقيلة في منتجات أخرى

الحلقة الحالية مليئة ببذور يمكن أن تتحول إلى:

  • مقالات في البنك الثالث:

    • المساءلة الزائفة في المنح،

    • الجمعيات الناشئة ومسارات الحوكمة،

    • نقد بطاقة الأداء المتوازن،

    • بيانات المستفيدين والخصوصية.

  • دلائل قصيرة أو أوراق عمل تُبنى على نموذج "مكل" وتُقدّم لقادة الجمعيات.

ما قيل في الحلقة أثمن من أن يُترك حبيس استطراد صوتي.


أخيرًا: من المايك المُعطّل إلى الإدارة المُعطّلة

الحلقة – بقدر ما هي فوضوية – تقدم صورة صادقة جدًا عن حال جزء كبير من القطاع:

  • نوايا حسنة.

  • خبرات عميقة متراكمة.

  • أسئلة كبيرة وشجاعة عن المانحين والحوكمة والبيانات.

  • لكن… قليل من الإدارة للبنية، للوقت، للتركيز.

وبهذا المعنى، يمكن النظر للحلقة كنموذج مصغّر للقطاع نفسه:

نملك الكثير لنقوله، لكننا ما زلنا نتعلم كيف ندير طريقة قوله.

ربما تكون أفضل "إدارة" لهذه الحلقة، أن تُقرأ كنص تعلّم ذاتي للذين سجّلوها قبل أن تُسمع مرة أخرى من الجمهور.
وحين تعود حكاية القطاع بحلقة ثانية عن الإدارة، سيكون من الجميل أن نرى "مكل" وهو يقود الدفة من أول دقيقة… لا ينتظر حتى نهاية الحلقة ليُستدعى كضابط مرور متأخر.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top