«النية لا تكفي: حين يثور فيلم Uncharitable على قيم العطاء الزائف»

ع ع ع

في زمنٍ تتسارع فيه حملات التبرع، وتزداد فيه الدعوات إلى «الإحسان»، يأتي فيلم Uncharitable لا ليُبشّر بمزيد من العطاء، بل ليُحاكم العطاء ذاته.

إنه ليس وثائقيًا تقنيًا عن جمعيات أو تمويل، بل بيان ثقافي ضد نظام القيم الذي صاغ صورة العمل الخيري لعقود، وأخضعه لنموذج أخلاقي هشّ، يُمجّد الزهد ويُجرّم الكفاءة.


أول السطر: تساؤلات لا تُقال علنًا

يفتح الفيلم بسؤال حاد ومحرج:

لماذا يُسمح للشركات بالابتكار، النمو، واستقطاب أفضل المواهب، بينما يُمنع ذلك على الجمعيات الخيرية؟

يطرح Uncharitable هذه الفرضية بلسان دان بالوتا – أحد أبرز المفكرين الأمريكيين في نقد بنية العمل الخيري – ويكشف تناقضًا عميقًا في الضمير الجمعي:

  • نُطالب الجمعيات بأثرٍ كبير،

  • ونرفض تمكينها من أدوات التأثير.

كأن المجتمع يقول لها: "حقّقي المعجزات... لكن لا تنفقي على أدواتك".
هذا التناقض ليس إشكالًا إداريًا، بل فجوة في الفهم الثقافي لمفهوم "الخير".


صورة الخير في العقل العام: الزهد لا الكفاءة

يروي الفيلم قصة حملة خيرية نظّمها بالوتا لمحاربة الإيدز، جمعت مئات الملايين من الدولارات، لكنها انهارت بعد حملة تشويه لأنها أنفقت على التسويق والموظفين برواتب محترمة.

هنا يكشف الفيلم عن نظام أخلاقي مشوّه:

  • يُكافئ النوايا لا النتائج،

  • ويعتبر الاستثمار في الموارد البشرية «ترفًا»،

  • ويُفخّم الفقر الإداري بوصفه دليلاً على الإخلاص.

في الواقع، هذا التصور ليس محصورًا بالغرب. ففي السياق السعودي والعربي، تُحاسب كثير من الجمعيات على «صورتها» لا على «أثرها».
وتُصنّف المؤسسات حسب حجم تبرعاتها، لا حسب مدى مهنيتها أو استدامتها أو قدرتها على التغيير المجتمعي.


المقارنة الظالمة: شركة ربحية × جمعية خيرية

يتعمّد الفيلم عقد مقارنة جريئة بين الشركات الربحية والمنظمات غير الربحية. لكنه لا يفعل ذلك من باب الغيرة أو التقليد، بل من باب العدالة.
في السوق، يمكن للشركة أن:

  • تصرف 30% من دخلها على التسويق،

  • تدفع رواتب ضخمة لجذب أفضل العقول،

  • تقترض من أجل التوسع والنمو.

بينما يُتوقع من الجمعية الخيرية:

  • ألا تصرف على التسويق،

  • أن تعمل برواتب زهيدة،

  • أن لا تنمو إلا إذا تبرع الناس بـ"ما فاض عن حاجتهم".

هكذا يُصاغ العمل الخيري بوصفه ملاذًا للمشاعر، لا مجالًا للتغيير البنيوي.


بين العطاء والعدالة: انتقال فلسفي

يريد الفيلم أن يُعيد صياغة جوهر السؤال من:

"كيف نُعطي للفقراء؟"
إلى:
"كيف نُزيل بنية الفقر؟"

وهذا التحول ليس تقنيًا بل فلسفيًا. إنه يدعونا للانتقال من رؤية «الخير» كفعلٍ فردي نابع من الشفقة، إلى «العدالة» كمشروع مؤسسي يحتاج إلى:

  • موارد،

  • أدوات،

  • ومناخ ثقافي يحتفي بالكفاءة لا بالتصوف.


رسائل للفكر غير الربحي في السعودية

في السعودية، حيث يشهد القطاع غير الربحي تحوّلات كبيرة بدفع من رؤية 2030، يأتي Uncharitable كنداءٍ للتأمل:

  • هل ما زلنا نقيّم الجمعيات بعدد المستفيدين فقط؟

  • هل نُحرج العاملين فيها لأنهم يتقاضون رواتب تُكافئ جهودهم؟

  • هل نربط "النية" دائمًا بـ"الفقر"؟

هذه الأسئلة تُحيلنا إلى ضرورة إعادة تعريف "الخير":

الخير ليس في التقشف، بل في إتقان الأثر.
الخير ليس في العمل الصامت، بل في الحوكمة الشفافة.
الخير ليس في الزهد عن النمو، بل في صناعة أثر يستحق التمويل والتمكين.


قتل الأصنام القديمة

Uncharitable ليس فيلمًا عن العمل الخيري، بل عن تحريره من الأصنام الأخلاقية التي وُضعت على كتفيه باسم النية.
إنه يدعونا جميعًا – عاملين وممولين ومجتمعًا – إلى تبني أخلاقيات جديدة للعطاء:
أخلاقيات تعترف بأن الإحسان لا يكفي، وأن الاستدامة لا تُبنى بالنوايا وحدها.

وفي عالم تتنافس فيه القيم، فإن الجمعيات التي تفكر مثل الشركات… وتتحرك كمنظومات أثر، هي التي ستبقى.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top