حين تخرّج المزرعة 955 طالبًا: دروس جلسة جيمس مور في منتدى جامعة اليمامة للأوقاف التعليمية

ع ع ع

في صباح الاثنين 17 نوفمبر 2025، الموافق 26 جمادى الأولى 1447هـ، كانت قاعة الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير في جامعة اليمامة بالرياض أشبه بمسرحٍ لعلاقة جديدة بين الجامعة والوقف.
تحت شعار «الأوقاف التعليمية وتحقيق مستهدفات رؤية 2030 في قطاع التعليم»، انعقدت إحدى أهم الجلسات في المنتدى: كلمة المتحدث الدولي الأستاذ جيمس مور، الرئيس التنفيذي لمؤسسة جامعة إلينوي الوقفية، بإدارة أكاديمية هادئة الواثقة سعادة الدكتورة حصة بنت عبدالله السلامة، نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية.

هذا التقرير يحاول أن يوثِّق تلك الجلسة كوثيقة معرفية للبنك الثالث، وأن يلتقط ما وراء الأرقام والشرائح، من دروس عميقة للجامعات السعودية والقطاع غير الربحي التعليمي.


مشهد البداية… عندما تتقاطع الرياض مع إلينوي

دخل جيمس مور القاعة حاملاً معه خبرة عشرات السنين في إدارة أحد أكبر الأوقاف الجامعية في الولايات المتحدة. لكن ما لفت الانتباه منذ الدقائق الأولى لم يكن حجم الأرقام التي تحدّث عنها، بل الطريقة التي ربط بها بين حياة الطلاب وحركة الأصول الاستثمارية.

عرّفته الدكتورة حصة السلامة للحضور، موضحة دوره كرئيس لمؤسسة مستقلة قانونيًا تدير وقف جامعة إلينوي لصالح الجامعة، ثم تركت له المنصّة لينقل المنتدى – لدقائق – من الرياض إلى قلب التجربة الأمريكية في الأوقاف التعليمية.


من دولار واحد إلى مليارات… قصة الوقف الجامعي

بدأ مور من السؤال الذي يشغل أي جامعة ناشئة في عالم الأوقاف:
كيف تتحوّل الهبات الصغيرة إلى أوقاف بمليارات الدولارات؟

شرح أن كل وقف جامعي في بلاده يبدأ – حرفيًا – بدولار واحد.
الهدايا تأتي من الأفراد، والخريجين، والأسر، وتُجمَع في صناديق وقفية تُستثمر بعناية لسنوات طويلة. بمرور الوقت، وبفضل أداء الاستثمار والتبرعات المتتابعة، تتحول هذه الصناديق إلى أصول ضخمة تموّل المنح الدراسية، والبحث العلمي، وبرامج الابتكار.

أكّد مور أن مصدر هذه الأموال في جوهره إنساني:

«الأفراد يستثمرون في الأفراد. المانح لا يضع ماله في مبنى من حجر، بل في أشخاص يقودون الجامعة ويقدرون أن يحلّوا مشكلة تشغله.»

ثم استعرض بصورة وصفية خريطة العطاء الخيري في الولايات المتحدة:
منحنى تصاعدي للعطاء عبر عقود، ومئات المليارات من الدولارات سنويًا تذهب لقطاعات عدة، يتقدّمها الدين والتعليم. لكن التركيز لم يكن على حجم الكعكة بقدر ما كان على الجزء الذي يصب في التعليم، وكيف يسهم في بناء منظومة أوقاف جامعية قوية.


تنويع الأصول… مزرعة تخرّج 955 طالبًا

في لحظة درامية لافتة، انتقل مور من عالم الرسوم البيانية إلى حقل زراعي.

عرض صورة لأول مزرعة وُقفت لصالح جامعة إلينوي عام 1954:
قطعة أرض مساحتها 656 فدانًا، كانت البداية لما يقارب 7000 فدان من الأراضي الزراعية التي تديرها المؤسسة اليوم ضمن محفظة الوقف.

هذه المزرعة وحدها:

  • موّلت دراسة أكثر من 955 طالبًا حتى الآن.

  • حقّقت عوائد تجاوزت 600 ألف دولار.

  • وما زالت تُدار وتنتج وتُمَوِّل المستقبل.

صاحب الأرض – كما يروي مور – كان هاجسه أن يحظى الطلاب بفرصة تعليم في إلينوي بسعر ميسور. لم يكن يفكر في "مشروع زراعي" بقدر ما كان يفكر في جسر تعليمي دائم. ما فعلته المؤسسة هو أن حوّلت هذه الرغبة إلى نموذج استثماري مستدام: تُزرَع الأرض، وتُعاد استثماراتها، وتذهب الغلّة كلّ عام إلى طلاب جدد.

في القاعة، كان هذا المثال يتجاوز حدود إلينوي؛ فهو يفتح أمام الجامعات السعودية بابًا واسعًا للتفكير في الأوقاف التعليمية كأصول منتِجة: مزارع، وعقارات، ومشروعات تجارية تُدار باحتراف؛ لا مجرد ودائع ساكنة في حسابات مصرفية.


الأوقاف ليست أموالاً فقط… إنها منظومة حوكمة معقّدة

بعد أن شدّ انتباه الحضور بقصة المزرعة، عاد مور إلى ما أسماه «فن ما بعد التبرع».

أوضح أن التحدي الحقيقي يبدأ بعد قبول الهدية؛ فإدارة الأوقاف تحتاج إلى بنية تنظيمية متكاملة:

  1. حد أدنى مدروس للوقف

    • في مؤسسة جامعة إلينوي، الحد الأدنى لتأسيس وقف جديد هو 25 ألف دولار.

    • هذا ليس تعجيزًا للمتبرعين، بل اعتراف بأن إدارة الوقف لها تكلفة إدارية ومحاسبية وقانونية يجب تغطيتها.

  2. إدارة آلاف الحسابات الوقفية

    • المؤسسة تدير نحو 7000 حساب وقفي، لكل واحد منها غرض محدد ووثيقة مستقلة.

    • هذا يعني أن الوقف ليس "وعاءً واحدًا"؛ بل شبكة معقّدة من الصناديق الموجّهة التي تحتاج إلى أنظمة دقيقة للمتابعة والتقارير.

  3. الحوكمة والسياسات

    • التأسيس لوثائق اتفاقيات مانحين واضحة: ماذا يريد المتبرع؟ كيف تُستخدم العوائد؟ ما هي حدود تعديل الأهداف مستقبلًا؟

    • تشكيل مجالس أمناء ولجان استثمار تتخذ القرارات بعيدًا عن المزاجية، وبحسّ مسؤولية تجاه الجامعة والمانحين.

    • وضع سياسات إنفاق توازن بين حفظ رأس المال وتمويل الحاضر؛ لأن هذه الأموال – كما قال – "دولارات أبدية".

  4. التوثيق والامتثال لنية المانح

    • قبول الهدية خطوة؛ توثيقها ومتابعة تنفيذ شرط المانح مسار كامل.

    • سجلات دقيقة، ونظم معلومات، وتقارير دورية تضمن ألا تنحرف المؤسسة عن المقصد الذي لأجله أُسِّس الوقف.

في هذه اللحظات، كان جيمس مور لا يقدّم وصفًا لتجربة جامعية بعيدة فحسب، بل يرسم – دون أن يقول ذلك صراحة – خريطة طريق للجامعات السعودية التي تبدأ اليوم بناء أوقافها التعليمية:
لا يكفي أن نعلن عن صندوق وقفي؛ يجب أن نستثمر في البنية الإدارية التي تحميه.


أسئلة من الرياض… والجواب من تجربة عالمية

بعد انتهاء العرض، فتحت الدكتورة حصة السلامة باب الأسئلة للحضور، فانطلقت المناقشة إلى مناطق قانونية وعابرة للحدود.

1. سؤال الضرائب

أحد الحضور سأل مور عن الضرائب:
هل تُعامَل الأوقاف الجامعية في الولايات المتحدة مثل الشركات التجارية؟

أجاب بأن مؤسسته تُسجَّل كمنظمة غير ربحية خيرية، وبالتالي فهي معفاة من ضريبة الدخل على أصول الوقف وعوائده، ما دامت مخصّصة لأغراض تعليمية وخيرية. لكن:

  • إذا امتلكت المؤسسة عقارًا لا يُستخدم في أغراض تعليمية، فإنها تلتزم بدفع الضرائب العقارية عليه كغيرها.

  • الإعفاء ليس مطلقًا، بل مرتبط بتحقيق الغرض التعليمي المعلن.

هذا التوازن بين الإعفاء والمساءلة يقدّم نموذجًا يمكن للبيئات القانونية الأخرى – ومنها البيئة السعودية – أن تستفيد منه في تصميم الأنظمة التي تنظّم العلاقة بين الدولة والأوقاف التعليمية.

2. سؤال الأوقاف العابرة للحدود

سؤال آخر جاء من أحد أعضاء هيئة التدريس حول كيفية إنشاء أوقاف تعليمية تستقبل تبرعات دولية في ظل اختلاف الأنظمة القانونية من بلد لآخر.

أجاب مور بأن جامعة إلينوي واجهت هذه الإشكالية منذ نحو عشر سنوات، فأنشأت في المملكة المتحدة كيانًا خيريًا مسجّلًا (ثنائي التأهيل)، يُتيح للمتبرعين في عدد من الدول الأوروبية أن:

  • يتبرعوا لصالح الجامعة عبر هذا الكيان.

  • يحصلوا في بلدانهم على المزايا الضريبية المتاحة عادةً للتبرعات المحلية.

  • تُحوَّل هذه التبرعات بعد ذلك – عبر آليات نظامية واضحة – إلى مؤسسة الجامعة في الولايات المتحدة.

بهذا الأسلوب، تحوّل الوقف الجامعي من مشروع محلي إلى شبكة تمويل دولية، مع المحافظة على الامتثال للأنظمة في كل بلد من بلدان المتبرعين.


رسائل ختامية للجامعات السعودية والقطاع غير الربحي

من خلال هذه الجلسة، يمكن تلخيص مجموعة من الرسائل العملية التي تعني الجامعات السعودية وأوقافها الناشئة:

  1. التفكير في الأوقاف كأصول حيّة
    المزرعة الوقفية في إلينوي تذكير بأن من الممكن أن تكون لدينا أوقاف تعليمية قائمة على أصول زراعية أو عقارية أو صناعية تُدار باحتراف، وتموّل التعليم لعشرات السنين.

  2. الاستثمار في الحوكمة قبل جمع المبالغ الضخمة
    بنية إدارية رشيدة، ونظم محاسبية وقانونية قوية، هي شرط لدوام الثقة، قبل أن تكون ترفًا تنظيميًا.

  3. الرهان طويل الأجل على ثقة الأفراد
    الأفراد – لا الشركات وحدها – هم العمود الفقري للأوقاف التعليمية. بناء علاقة عميقة مع الخريجين والواقفين المحتملين جزء من عمل الجامعة اليومي.

  4. استشراف الأبعاد الدولية للأوقاف التعليمية
    منذ البدايات يمكن التفكير في قنوات تبرع للجاليات والمهتمين بالتعليم السعودي خارج المملكة، عبر شراكات وهيئات وسيطة مدروسة.


كلمة تقدير لجامعة اليمامة

في نهاية الجلسة، جاءت تحية الشكر الرسمية من إدارة الجلسة، لكن ما يمكن رصده معرفيًا أبعد من مجاملة بروتوكولية.
باستضافة شخصية مثل جيمس مور، وإتاحة مساحة لحوار مفتوح مع الحضور، تُثبت جامعة اليمامة أنها لا تتعامل مع ملف الأوقاف التعليمية بوصفه «قضية تمويل» فحسب، بل قضية معرفة وبناء قدرات للجامعات السعودية كلها.

هذا التقرير يسجّل شكرًا صريحًا للجامعة – إدارةً وتنظيمًا – على فتح نافذة عملية على واحدة من أعمق التجارب العالمية في الأوقاف الجامعية، وعلى الدور الذي تؤديه في ربط رؤية 2030 بأدوات الاستدامة المالية في التعليم العالي.

بهذه الجلسة، لم تكن الرياض تستمع إلى تجربة إلينوي فقط؛
كانت – في عمقها – تتأمل ملامح نموذج سعودي قادم للأوقاف التعليمية، يزرع في أرضه، ويستثمر في علمه، ويصدّر أثره إلى العالم.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top