رحلة المنظمات غير الربحية من القرن 18 حتى اليوم – قراءة ألمانية من جامعة بازل

ع ع ع

في إطار حرص البنك الثالث | موسوعة الإثراء المعرفي للقطاع غير الربحي على استقاء المعرفة من تنوع ثقافي وأكاديمي واسع، نقدم لقرائنا هذا النص المترجم والمحرر من اللغة الألمانية، الصادر عن مركز دراسات القطاع غير الربحي (CEPS) التابع لجامعة بازل السويسرية، والذي أعده الباحث البارز جورج فون شنورباين.

تأتي أهمية هذه المادة من كونها تقدم رؤية تاريخية وفكرية معمقة حول نشأة وتطور المنظمات غير الربحية (NPOs) في أوروبا، مع استحضار نماذج بارزة مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومؤسسات التعليم والرعاية التي تأسست منذ القرن الثامن عشر.

إن نشر مثل هذه الدراسات يعكس رسالة البنك الثالث في تنويع المصادر واللغات، والانفتاح على التجارب العالمية، مع ربطها بسياق القطاع غير الربحي السعودي الذي يخطو خطوات متسارعة نحو التمكين والاحترافية في ظل رؤية المملكة 2030.


ما هي المنظمات غير الربحية (NPO)؟

قبل فترة من الزمن، طُرح في إحدى الإذاعات السويسرية سؤال: ما هي أقدم منظمة غير ربحية في البلاد؟ وجاء الجواب: الكنيسة الكاثوليكية. هذه الإجابة تكشف مباشرة صعوبة تعريف مفهوم "المنظمة غير الربحية"، وحدود هذا المفهوم بين ما هو ديني أو اجتماعي أو مدني.

إحدى الطرق الممكنة لتعريف المنظمات غير الربحية تقوم على الاستبعاد: فهي ليست كيانات موجهة نحو السوق لتحقيق الربح، كما أنها ليست جزءًا مباشرًا من التنظيم الحكومي. لكن هذا التعريف واسع لدرجة أنه يشمل حتى الكنيسة.

وعندما ننتقل إلى معايير أكثر تحديدًا، فإن الأسئلة تصبح متصلة بـالبنية الداخلية لهذه المنظمات، وطرق تمويلها، ومجالات أنشطتها. وهنا برزت محاولات علمية لصياغة تعريف دقيق، من أبرزها ما وضعه الباحثان ليستر سالمون وهيلموت أنهير عام 1992، حيث حددوا خمسة معايير أساسية يجب أن تتحقق حتى نطلق على الكيان اسم "منظمة غير ربحية":

  1. أن تكون خاصة وليست حكومية.

  2. أن تمتلك حدًا أدنى من التنظيم الرسمي.

  3. أن تتمتع بقدر معتبر من الاستقلال الذاتي.

  4. أن لا توزع أرباحًا على أعضائها أو على أي جهات أخرى.

  5. أن تعتمد جزئيًا على العمل التطوعي.

هذا التعريف لا يكتفي بالجانب السلبي (أي استبعاد السوق والدولة)، بل يضيف عناصر بنائية جوهرية تميز هذا القطاع وتجعله قائمًا بذاته، بمزيج من الاستقلالية والتنظيم والمشاركة التطوعية.


نشأة المنظمات غير الربحية الحديثة

إذا أخذنا هذا التعريف أساسًا، فإن تاريخ المنظمات غير الربحية لا يمتد إلى عصور بعيدة، بل يبدأ مباشرة قبل نشوء الدولة الاتحادية الحديثة في سويسرا، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بأفكار عصر التنوير.

ففي أواخر القرن الثامن عشر، ظهرت في عدد من المدن الأوروبية ما كان يُعرف بـ جمعيات المساعدة، والتي سعت – انسجامًا مع الفكرة التنويرية القائمة على السعي إلى السعادة – إلى تمكين كل مواطني المدينة من حياة أفضل وأكثر كرامة.

ومن أبرز هذه الجمعيات:

  • الجمعية السويسرية للنفع العام التي تأسست سنة 1810.

  • جمعية الخير والنفع العام في مدينة بازل التي تأسست سنة 1777.

هذان النموذجان أسسا على مر العقود مؤسسات اجتماعية وتربوية لعبت أدوارًا محورية في المجتمع، شملت: المدارس، المكتبات، رياض الأطفال، مرافق الرعاية الصحية، بل وحتى البنوك وشركات التأمين.

لقد شكّلت هذه التجارب البدايات الحقيقية للمنظمات غير الربحية الحديثة، حيث جمعت بين الأهداف الإنسانية والتنظيم المؤسسي المستدام.


الأشكال القانونية المختلفة

مع تشكّل المجتمع المدني في القرن التاسع عشر، ظهرت الأشكال الأساسية التي لا تزال تميّز كثيرًا من المنظمات غير الربحية حتى اليوم. فإلى جانب الجمعيات ذات الطابع الاجتماعي، برزت أيضًا:

  • الأندية الرياضية والثقافية،

  • المؤسسات (Stiftungen) التي تُعنى بتمويل القضايا المجتمعية،

  • التعاونيات (Genossenschaften) التي تأسست كأداة لمساعدة الأفراد أنفسهم بأنفسهم، مثل: Landi أو مصارف Raiffeisen.

ومع مرور الوقت، تطور المشهد القانوني، فأصبحت المنظمات غير الربحية موجودة بأشكال متعددة:

  • الجمعيات،

  • المؤسسات،

  • التعاونيات،

لكنها لم تقتصر على ذلك، بل أخذت تظهر أيضًا في صورة كيانات جديدة مثل:

  • الشركات ذات المسؤولية المحدودة غير الربحية (gGmbH)،

  • الشركات المساهمة غير الربحية (gAG).

هذا التوسع في الأشكال القانونية يعكس مرونة القطاع وقدرته على التكيف مع متطلبات المجتمعات الحديثة، دون فقدان جوهره المتمثل في خدمة الصالح العام.


تطور المنظمات غير الربحية عبر الزمن

من الصعب بطبيعة الحال تقسيم مسيرة قطاع متنوع ومعقد مثل القطاع غير الربحي إلى مراحل زمنية واضحة، إذ قد ينطوي ذلك على كثير من التبسيط. لكن إذا نظرنا إلى علاقة هذا القطاع بتطور الدولة الحديثة، يصبح بالإمكان رسم صورة تقريبية لمساره التاريخي.

وفي السياق السويسري، يمكن وصف تطور المنظمات غير الربحية منذ نشأة الدولة الاتحادية الحديثة عبر أربع مراحل رئيسية:

1. النشأة البعيدة عن الدولة (حوالي 1800–1860)

انبثقت أولى المنظمات غير الربحية في بدايات القرن التاسع عشر من قلب المجتمع المدني، إما لتنظيم الأنشطة الخاصة مثل: الأندية الرياضية والثقافية والجوقات الموسيقية، أو لتقديم الدعم للفئات الفقيرة مثل: جمعيات المساعدة، دور الأيتام، مرافق الرعاية.

وكان وراء هذه المبادرات غالبًا أفراد من البرجوازية العليا إلى جانب القساوسة والراهبات. وبما أن أغلب الالتزامات الاجتماعية آنذاك كانت تتحملها الأسر أو الكنيسة، لم يكن للدولة دور يُذكر في تأسيس هذه المنظمات أو إدارتها.

أما التمويل فكان يأتي من التبرعات ورسوم العضوية والمؤسسات والكنيسة، مما عزز استقلالية هذا القطاع عن الدولة.

2. المرحلة شبه الحكومية (1860–1920)

مع تطور الدولة الاتحادية منذ 1848، أخذت المنظمات غير الربحية تكبر حجمًا وتأثيرًا، خصوصًا في المجالات الاجتماعية والثقافية. ولم تعد مقتصرة على العمل المحلي، بل اتجهت نحو تشكيل اتحادات ومنظمات ذات دور وطني ودولي.

أبرز الأمثلة هو اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي تأسست عام 1863. فهي لم تكتفِ بالنشاط الأهلي، بل دفعت الدول لاعتماد قوانين جديدة ومعايير إنسانية عالمية.

وفي المجال الاجتماعي، أسهمت هذه المنظمات في دفع الدولة للمشاركة في تحمّل التكاليف المتزايدة الناتجة عن آثار التصنيع. ومع ذلك، ظلّت كثير من المهام الاجتماعية والتعليمية في يد المنظمات الخاصة، التي وضعت عمليًا المعايير الأولى للرعاية والتعليم.

ومن الأمثلة اللافتة أن مؤسسة روكفلر الأمريكية أسست في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى منظمة لتحسين المعايير الصحية، ومنها انبثقت لاحقًا وزارة الصحة الفرنسية.

3. مرحلة الاندماج مع الدولة (1920–1990)

خلال القرن العشرين، وخاصة بعد الحربين العالميتين، تعززت العلاقة بين الدولة والمنظمات غير الربحية. ففي ظل توسع دولة الرفاه، تحمّلت الحكومات المزيد من المسؤوليات الاجتماعية، إلا أن القطاع غير الربحي ظل شريكًا رئيسيًا في التنفيذ.

أصبحت العلاقة هنا علاقة تكامل: الدولة تموّل وتضع الأطر، والمنظمات غير الربحية تقدّم الخدمات على الأرض. وبذلك نشأ ما يشبه التقسيم الوظيفي بين الدولة والمجتمع المدني.

4. مرحلة التأثير على الدولة (منذ 1990)

يمكن وصف العقود الثلاثة الأخيرة بأنها العصر الذهبي للمنظمات غير الربحية. فقد توافرت لها موارد مالية غير مسبوقة، وزادت أعداد العاملين والمتطوعين المؤهلين، ما أدى إلى قفزة كبيرة في حجم هذا القطاع.

تغيرت أيضًا طبيعة العلاقة مع الدولة:

  • من جهة، أدى ظهور الإدارة العامة الجديدة (New Public Management) إلى إضفاء طابع احترافي على العلاقة في تقديم الخدمات.

  • ومن جهة أخرى، بدأت المنظمات غير الربحية تمارس تأثيرًا مباشرًا على عملية صنع القرار الحكومي.

وخلال السنوات العشر الأخيرة على وجه الخصوص، برزت بقوة أنشطة الضغط (Lobbying) والمناصرة (Advocacy). إذ أصبح من الممكن – عبر التأثير على توزيع الأموال العامة للدولة – تحقيق نتائج أكبر بكثير مما يمكن أن تحققه التبرعات الخاصة المحدودة نسبيًا.


يتضح من هذا العرض التاريخي أن المنظمات غير الربحية لم تكن مجرد كيانات هامشية، بل لعبت أدوارًا جوهرية في تشكيل المجتمع الحديث، ابتداءً من المبادرات الأهلية البسيطة، مرورًا بمرحلة بناء مؤسسات الرعاية والتعليم، وصولًا إلى قدرتها اليوم على التأثير في التشريعات والسياسات العامة.

هذا التطور الطويل يبين أن القطاع غير الربحي ليس قطاعًا ثانويًا، بل هو شريك أصيل في التنمية، يواكب تحولات الدولة والمجتمع والاقتصاد، بل ويدفعها أحيانًا إلى تبني معايير جديدة أكثر عدالة وإنسانية.

وفي المملكة العربية السعودية، حيث يشهد القطاع غير الربحي نموًا غير مسبوق في ظل رؤية 2030، يمكن الاستفادة من هذه التجارب الأوروبية لفهم ديناميات العلاقة بين المجتمع المدني والدولة، وتطوير نماذج تمويل وإدارة أكثر استدامة، مع تعزيز الدور المؤثر للجمعيات والمؤسسات السعودية في صناعة القرار المجتمعي والاقتصادي.

إن نشر هذه المادة المترجمة عن جامعة بازل عبر البنك الثالث يأتي انسجامًا مع رسالتنا في الانفتاح على مصادر معرفية متعددة اللغات والثقافات، وربطها بالسياق المحلي بما يثري خبرات العاملين في القطاع غير الربحي السعودي ويعزز قدراتهم على الابتكار والتأثير.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top