هذا التقرير يحاول أن يوثق تلك الورقة الأولى، لا بوصفها عرضًا مرئيًا مرّ سريعًا، بل بوصفها مادة معرفية تستحق أن تُقرأ بهدوء وأن تُبنى عليها استراتيجيات.
الوقف كنموذج أصيل للاستدامة المالية
عندما يقرر واقف أن يوقف أصلًا، فإن وثيقة الوقف لا تقتصر على تحديد المستفيدين، بل تضع عادةً شرطين جوهريين:
-
تخصيص جزء من الغلة لصيانة الأصل الوقفي وحمايته.
-
تخصيص جزء آخر لتنمية هذا الأصل وتعظيم عوائده.
-
أن يقوم الناظر بنفسه بشراء المياه وتوزيعها.
-
أو أن يُسند التنفيذ إلى جهة حكومية أو منظمة غير ربحية تمتلك القدرة والخبرة في إيصال الخدمة للفئات المستحقة.
في النموذج الثاني، يتحول الوقف إلى رافعة استدامة لتلك الجهة المنفذة؛ إذ تحصل على تمويل متكرر لبرامجها، وتبني قدراتها التشغيلية مع الوقت. وهكذا يصبح الوقف حلقة وصل بين استدامة الأصل واستدامة البرنامج والجهة في آن واحد.
من النموذج التقليدي إلى تعظيم أثر شرط الواقف
استعرض الهويمل سلسلة القيمة داخل الهيئة: من لحظة استلام الوقف، إلى إعداده وتكييفه، ثم إدارته واستثماره، وصولًا إلى إدارة شروط الواقفين، ثم تصميم برامج الصرف، وانتهاءً بـ قياس الأثر.
ما هي الاستدامة المالية؟ من التنظير إلى الواقع الميداني
لذلك سلكت الهيئة مسارين متوازيين:
-
جهد معرفي داخلي بالتكامل مع بيوت خبرة استشارية لصياغة تعريف عملي للاستدامة المالية يناسب الأوقاف والجهات غير الربحية.جوهر هذا التعريف أن الاستدامة هي الحالة التي تتمكّن فيها المنظمة من إدارة مواردها المالية بكفاءة في بيئة قادرة على توليد المزيد من الموارد، بما يضمن تحقيق غاياتها على المدى الطويل.
-
دراسة ميدانية للواقع عبر جولات على مناطق المملكة، ولقاءات مباشرة مع الأوقاف والجمعيات الخيرية، لرصد:
-
مستوى النضج المالي والإداري,
-
التحديات في التمويل والاستثمار,
-
التطلعات من جهة ترى في الهيئة شريكًا في بناء الاستدامة لا مجرد جهة رقابية.
-
هذه المقارنة بين التنظير والواقع قادت إلى مرحلة ثالثة هي المقارنات المعيارية العالمية، حيث درست الهيئة تجارب دولية في الاستدامة المالية، كان من بينها تجارب الأوقاف الجامعية التي عُرضت في المنتدى نفسه.
من هذه الرحلة خرجت الهيئة بمجموعة من الدروس المستفادة التي قال الهويمل إنها لا تخص الهيئة وحدها، بل "تفيد أي جهة ترغب في تأسيس وقف أو العمل تحت مظلة الوقف"، من أبرزها:
-
إسناد مهام الاستثمار إلى جهات متخصصة مرخصة، بدل محاولة القيام بكل شيء داخليًا.
-
تنويع الأدوات والمنتجات المالية والاستثمارية، وعدم الاكتفاء بأداة واحدة أو سوق واحد.
-
النظر إلى الأصول الوقفية كطيف واسع يشمل النقد والعقار والاستثمارات المباشرة، لا كحساب بنكي فقط.
مسارات عمل إدارة الاستدامة المالية في الهيئة
-
الأدوات الماليةوهنا تبرز الصناديق الاستثمارية الوقفية بوصفها أحد أهم الابتكارات على مستوى العالم، كما وصفها.هذه الصناديق محوْكمة بالكامل، تخضع لرقابة هيئة السوق المالية والهيئة العامة للأوقاف، وتُدار عبر شركات مالية متخصصة.تطورت نماذجها من صندوق لجهة مستفيدة واحدة، إلى صناديق قطاعية (كجمعيات الأيتام أو جمعيات منطقة معينة)، ثم إلى النماذج المشتركة المطورة التي تسمح بدخول جهات متعددة دون اشتراطات معقدة.لاحقًا ظهرت نماذج جديدة تستثمر جزءًا من أصول الصندوق في مشاريع مرتبطة بقطاعه، مثل صندوق يدعم البحث والابتكار بالتعاون مع منظومة البحث والتطوير والابتكار، وآخر مع منظومة الزراعة والبيئة والمياه، وصندوق لتفعيل الأصول العقارية الوقفية المعطلة بالشراكة مع صندوق دعم الجمعيات.كما طورت الهيئة أدوات تستهدف فئات محددة:
-
صناديق "الوقف المؤقت" للمؤسسات المانحة الراغبة في استثمار أموالها لفترة محددة مع تخصيص العائد للجهات، مثل صندوق "أسوة التنموي".
-
صناديق لاستثمار فوائض أموال الأوقاف والجهات غير الربحية بما يتوافق مع متطلباتها، مثل صناديق "استثمار المستقبل".
-
المحافظ الاستثمارية الوقفية للأفراد التي تُمكِّن أي شخص من فتح محفظة وقفية رقمية بمبالغ تبدأ من مستويات بسيطة، ومتابعة أدائها في دقائق.
-
-
الحلول الماليةهنا انتقلت الهيئة من دور الممول المباشر إلى دور "مُعظِّم الأثر" عبر محافظ ضمان وتمويل مشتركة.درست خريطة الجهات الممولة في المملكة: البنك الإسلامي للتنمية، بنك التنمية الاجتماعية، مؤسسة سليمان الراجحي للتمويل التنموي، البنوك التجارية، وغيرها.ثم فتحت لدى هذه الجهات محافظ ضمان وتمويل لصالح الأوقاف والقطاع غير الربحي، بحيث تتحول مبالغ مساهمة الهيئة (نحو 280 مليون ريال) إلى قدرة تمويلية تتجاوز 2.8 مليار ريال، أي عشرة أضعاف، في تجسيد عملي لفكرة تعظيم أثر شرط الواقف.
-
الاستشارات والنماذج الوقفيةمسار لم يكن متوقع الأثر في البداية، لكنه تحوّل إلى قناة رئيسية.بدأت الطلبات من جهات حكومية طلبًا للتمويل، ثم تطورت إلى شراكة في تصميم نماذج تمويلية واستثمارية وقفية لمشاريع تتجاوز قيمتها 130 مليار ريال، في قطاعات لا ترتبط مباشرة بالعمل الخيري، لكنها تبحث عن نماذج استدامة وقفية مبتكرة.
-
طلبات الاستدامة الماليةخصصت الهيئة منصات رقمية لاستقبال طلبات الأوقاف والجمعيات، مع التزام داخلي بالرد خلال يوم عمل واحد.قد يكون الرد استشارة مكتوبة، أو اجتماعًا عن بعد، أو اتصالًا هاتفيًا، لكن الرسالة الأهم هنا أن الاستدامة المالية أصبحت خدمة مؤسسية لا مبادرة موسمية.
-
المصانع الوقفية والاستثمار الاجتماعيعرض الهويمل نموذجين لمصانع وقفية:
-
مصنع للحوم يستفيد من لحوم الهدي والأضاحي.
-
مصنع للمياه.هذه المشاريع تجمع بين الاستثمار الاجتماعي والطابع الوقفي، وتُعد تجارب عملية لما يمكن أن تكون عليه الأصول المنتجة ذات الأثر التنموي المباشر.
-
أرقام الإنجاز… من الطموح إلى الواقع
لم يكتفِ الهويمل بالسرد، بل وضع على الشاشة حزمة من الأرقام تلخص ما تحقق:
-
عشرة أدوات مالية قائمة حاليًا، في طريقها لأن تصبح أحد عشر أداة باتفاقية جديدة.
-
حجم الأصول المستهدفة عبر هذه الأدوات يقترب من عشرة مليارات ريال، وقد تحقق منها حتى الآن نحو ثلاثة مليارات.
-
ثمان محافظ تمويل وضمان، تسهم الهيئة فيها بـ 280 مليون ريال، مقابل أثر تمويلي مستهدف يبلغ 2.8 مليار ريال.
إلى جانب ذلك، أشار إلى مسارات داعمة مثل:
-
ملتقى نمو للاستدامة المالية الذي شهد توقيع اتفاقيات تتجاوز قيمتها ستة مليارات ريال.
-
جائزة الاستدامة المالية التي وصفها بأنها "أكبر جائزة من نوعها على مستوى العالم"، بقيمة إجمالية 250 مليون ريال توزَّع على خمس سنوات، بواقع خمسين مليونًا سنويًا على شكل وحدات استثمارية وقفية، لا مبالغ نقدية.
-
المعيار الوطني للاستدامة المالية للأوقاف والجمعيات، الذي سيكون أداة التقييم المعتمدة للجائزة في دوراتها القادمة، ويتيح لكل جهة أن تقيس تقدمها وتخطط لرفع مستوياتها.
ما الذي تريده الهيئة من الأوقاف الجامعية؟
لكن رسالته للأوقاف الجامعية السعودية كانت واضحة وحادة:
-
لا ينبغي للأوقاف الجامعية أن تبقى في الإطار التقليدي الضيق: أصول تُستثمر في محفظة، وعوائد تُصرف، وتقارير ترفع للنظار عند نهاية السنة.المطلوب أن تتحول الأوقاف الجامعية إلى محرك ابتكار وتنمية داخل المنظومة التعليمية.
-
من مخرجات الأوقاف الجامعية التي يتوقعها:
-
عدد الأبحاث التي تحولت إلى فرص استثمارية حقيقية.
-
عدد الشركات الناشئة ورواد الأعمال الذين تبنّتهم الجامعة عبر أوقافها.
-
حجم الاستثمار الاجتماعي الذي تنفذه الجامعة كشريك لا كمجرد متلقٍّ للمنح.
-
-
لا حاجة لاختراع العجلة من جديد؛ يمكن للأوقاف الجامعية أن تنطلق من حيث انتهت الهيئة العامة للأوقاف والقطاع المالي في نماذج الصناديق الاستثمارية الوقفية والأدوات المالية والضمانية، ثم تضيف عليها ابتكارات جديدة تناسب بيئتها الجامعية.
-
الأوقاف شريك مثالي لجميع الأطراف:
-
للحكومة التي تبحث عن تحقيق مستهدفات وطنية مستدامة.
-
للمؤسسات المانحة التي تريد أثرًا عميقًا متصلًا بالتعليم والطلاب.
-
للمنظمات غير الربحية التي يمكن أن تنفذ برامجها بتمويل وقفي مستقر.
-
وللقطاع الخاص الذي يجد في الأوقاف منصة للشراكات المجتمعية والاستثمار الاجتماعي.
-
-
الأوقاف ليست حلًا لمشكلة آنية، بل حل استراتيجي طويل الأجل، ومستثمر "صبور" يبحث عن الأثر، لا عن الأرباح السريعة.ولذلك يجب ألا تُدار بعقلية التبرعات والمنح قصيرة النفس، بل بعقلية التخطيط الممتد، والحوكمة الرصينة، والاستثمار في قدرات الجهة قبل الاستثمار في أصولها.
من منصة اليمامة إلى خريطة القطاع غير الربحي
بفضل هذا العرض، خرج الحضور – ومن خلفهم القرّاء اليوم – بصورة أكثر وضوحًا عن:
-
معنى الاستدامة المالية في بيئة الأوقاف والقطاع غير الربحي.
-
الدور الممكن للهيئة العامة للأوقاف بوصفها مُمكِّنًا وشريكًا، لا جهة تنظيمية فحسب.
-
الإمكانات الهائلة الكامنة في الأوقاف الجامعية إذا تجاوزت الإطار التقليدي، وقررت أن تقود التعليم والتنمية لا أن تواكبها فقط.
ويبقى الفضل لجامعة اليمامة في أنها أتاحت لهذا النقاش أن يبدأ من قاعة جامعية سعودية، في لحظة تتحول فيها الأوقاف التعليمية من فكرة إلى واقع، ومن مبادرات متفرقة إلى مسار وطني منظم نحو استدامة التعليم ورؤيته لعام 2030 وما بعدها.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
