بوصلة الاستدامة الأسرية للأوقاف: قراءة تحليلية في مقال عاصم العبيدي

استعراض تحميل

في وقتٍ تتسارع فيه الدعوات نحو مأسسة العمل الخيري العائلي، وتزداد الحاجة إلى نماذج تنظيمية تحفظ النية وتضمن الاستدامة، يقدّم لنا الأستاذ عاصم بن عبدالرحمن العبيدي في هذا المقال الثري، معالجة عميقة وعملية بعنوان:

"الممارسات المثلى في تأسيس وإدارة الصناديق والأوقاف العائلية"

الصادر ضمن سلسلة "الممارسات المثلى في الأوقاف" عن مؤسسة عطاء الوقفية.

لقد وجدنا في هذا المقال بنية معرفية ناضجة، تمزج بين التأصيل الشرعي، والإطار القانوني، والتطبيق المؤسسي، وتُعيد تعريف مفاهيم مثل "الوقف العائلي" و"النموذج العائلي" و"الحوكمة الأسرية" بلغة منهجية تراعي واقع التحولات الاجتماعية والأنظمة الجديدة.

وإذ ننشر هذه القراءة التحليلية على منصة البنك الثالث، فإننا نثمّن عاليًا هذا الجهد المعرفي الرصين، ونشكر الكاتب الكريم، والجهة الناشرة على إسهامهم في إثراء المكتبة الوقفية السعودية بمحتوى علمي مهني، جدير بأن يُعتمد مرجعًا للممارسين وصنّاع القرار العائلي.

مدخل تحليلي: من النية إلى التنظيم

يأتي هذا المقال ضمن مشروع معرفي يستهدف "تأصيل العمل الوقفي المؤسسي" داخل البيئة الأسرية السعودية، في وقتٍ تتزايد فيه الحاجة إلى أدوات تحفظ رأس المال الاجتماعي داخل العائلة وتعيد توجيهه نحو أثر تنموي مستدام.

ما يميز المقال أنه لا يقدّم وصفًا للممارسات، بل يُعيد تعريف "العمل العائلي" كحقل إداري مستقل، له أدواره، وكياناته، ووثائقه، ومفاهيمه، وشروط نجاحه.

المفهوم المركزي: ما هو "العمل العائلي" في سياق الأوقاف؟

يطرح الكاتب مفهوم نموذج العمل العائلي بوصفه كيانًا يُعاد تصميمه وتوزيع أدواره وفق أربعة محاور:

حفظ الأصول (عبر الوقف)
حفظ السيولة (عبر الصندوق العائلي)
تنمية الموارد (عبر شركة استثمارية تملكها العائلة)
إعادة التوزيع العادل (عبر برامج العائلة)

ويتضمن هذا النموذج تفاعلات داخلية معقّدة بين الرؤية القيمية والممارسات الاقتصادية، وبين الأدوار القانونية والبعد العاطفي للأسرة، ويُعالج هذه التفاعلات عبر وثائق تأسيسية دقيقة وضوابط تنظيمية محددة.

بناء العمل العائلي: محطات تأسيسية

1. تصميم النموذج القانوني والإداري

يبدأ التأسيس من تحديد الكيانات الثلاثة: الوقف، الصندوق، الشركة.
يوضّح الكاتب العلاقة القانونية بين هذه الكيانات، ويحذر من دمجها العشوائي أو تكرار الأدوار.

2. تأسيس الوقف العائلي

يتناول المقال الضوابط الشرعية والنظامية لتأسيس الوقف، مع تفريق دقيق بين "الوقف العائلي" و"الوقف الأهلي".
يوصي بتخصيص النماذج بحسب أهداف الأسرة وعدد أفرادها، ونوع الأصول، ومستوى النضج التنظيمي.

3. الوثائق المؤسسية

ينبه إلى أهمية إعداد "وثائق كيان العمل العائلي"، مثل النظام الأساسي للصندوق، ولوائح الحوكمة، ومحاضر تشكيل اللجان، وصياغة الأهداف والأدوار.
يبرز المقال أهمية التفريق بين الملكية والإدارة، وتوزيع السلطات، وآلية التصويت، وموازنة الصلاحيات في حال تضارب المصالح.

ممارسات إدارية مثلى

4. توزيع الأدوار بين أفراد العائلة

ينتقد الكاتب النموذج التقليدي الذي يربط الأدوار بمكانة الأفراد، ويقترح بديلًا يستند إلى:

الكفاءة
التنوع
وضوح الوصف الوظيفي
آليات متفق عليها للتعيين والتقييم والمساءلة

5. الشفافية الداخلية

الشفافية ليست فقط في التقارير المالية، بل أيضًا في مشاركة المعلومات، والأهداف، ومآلات الدعم.
يُوصي الكاتب بإيجاد منصات تواصل داخلية ذكية، ونظام إنذار مبكر للخلافات قبل انفجارها.

6. احترام الخصوصية الفردية

يدعو المقال إلى الموازنة بين متطلبات العمل المؤسسي وحقوق الأفراد داخل العائلة.
يوصي بعقود قانونية واضحة لحماية بيانات الأفراد، وإدارة ملفاتهم بخصوصية، واحترام اختياراتهم إن لم يرغبوا بالانضمام إلى الكيان العائلي.

معالجات قانونية دقيقة

يلفت المقال إلى أهمية التفريق بين حيازة الأصول واستثمارها، ويوصي بإنشاء كيان قانوني منفصل للتمويل، بما يحقق متطلبات البنوك والداعمين.
يطالب بضرورة وجود مستشار قانوني دائم للعمل العائلي منذ التأسيس، مع تحديث دوري للوثائق والاتفاقيات تجنبًا لنزاعات مستقبلية.

التأطير الفقهي والتنظيمي

يؤصل الكاتب لكل الممارسات انطلاقًا من رؤية شرعية واضحة، ويعيد تفسير كثير من المفاهيم مثل:

الفرق بين الوقف الذري والوقف العائلي
مفهوم "الولاية الوقفية" وتطبيقه في الأسرة الممتدة
الضوابط الشرعية للعوائد والمنافع والوصايا داخل الوقف العائلي

ويؤكد أن العمل العائلي المؤسسي لا بد أن يُبنى وفق مقاصد الشريعة ومصالح العائلة والمجتمع معًا.

تعقيب تحليلي:

نقاط التميز:

الجمع بين البعد المؤسسي والبُعد القيمي دون تناقض.
عرض مراحل تأسيسية دقيقة بلغة مهنية واضحة.
إيضاح العلاقات بين الكيانات العائلية المختلفة عبر نماذج مرئية وشرح مفاهيمي مبسط.

مقترحات لتعميق الأثر:

إدراج دراسات حالة سعودية من واقع أوقاف ناجحة وفاشلة.
اقتراح مؤشرات قياس نضج العمل العائلي في الجوانب القانونية والإدارية.
ربط الممارسات بنظام الوقف السعودي الجديد، والأنظمة ذات العلاقة.

خاتمة:

يُعد هذا المقال من أ. عاصم العبيدي مساهمة نوعية في تعزيز الاحتراف الوقفي العائلي، وإعادة هندسة مفاهيم الخير العائلي في عصر الحوكمة والمؤسسية.

إنه لا يخاطب فقط من يريد أن يُنفق ماله في سبيل الله، بل من يريد أن يصوغ إنفاقه ضمن هندسة مستدامة لا تموت بموت المؤسس، بل تنمو بتفاعل العائلة مع الرؤية، والأنظمة، والضوابط.