نظرية الاستدامة: الأهمية والمعرقلات

ع ع ع

تمّ التطرُّق إلى قضيّة الاستدامة الماليّة في القطاع غير الهادف للرّبح كثيرًا بمفاهيم وعبارات وتَحليلات مُختلفة، لكنّ حصرَها في مفهوم واحد تأخّر كثيرًا تاريخيًّا وبالتّالي فإنَّ البحوث الرّسمية حول هذا المفهوم محدودةٌ للغاية. وعليه، انحصرت مُهمّة المشاريع البحثيّة الأولى في تصميم إطار عمل مفاهيميّ وعمليّ للاستدامة الماليّة قادر على استيعاب الموضُوعات الرئيسيّة التي تُستقى من الأدبيّات المُتعلّقة بقيَادة وإدارة المُنظّمات غير الهادفة للرّبح.


تتمثّلُ المُهمّة الثّانية للقائمين على المشاريع البحثيّة في اختبار قيمة الأبحاث الأدبيّة حول الاستدامة من خلال النّظر في تجارب خمس منظمات على الأقلّ على أمل أن يساعدهُم هذا الإطار على فهم التحدّيات الفَريدة والمُشتركة التي يُواجهها القطاع غير الرّبحيّ.


بالنّسبة إلى هذا البحث المُصغّر، أقوم من خلاله بتعريف الاستدامة المالية على أنّها مزيجٌ من استراتيجيات إدارة الإيرادات والتّكاليف التي تُمكّن المُنظّمة من مُتابعة مُهمّتها وتفويضها على المدى الطّويل ويتأثّرُ احتمال قيام المنظمة بتحسين استدامتها المالية من خلال القدرة على العمل بشكل استراتيجي استجابةً للعوامل الخارجية والداخلية ولمُتطلّبات الابتكار و / أو التنشيط و / أو جذب قيادة قويّة لها.


لقد استلهمت من بوومان (2011) الذي نشرَ التّعريف التّالي على نطاق واسع : "تُشير الاستدامة إلى قُدرة المسؤولين على الحفاظ على التّنظيم على المدى الطويل. ومع ذلك، قد يختلف تعريف الاستدامة المالية على نطاق واسع بين المُؤسّسات الرّبحية وغير الرّبحية يُعرف باسم المُنظّمات التي تستخدمُ فائضَ الإيرادات لتحقيق أهدافها بدلاً من توزيعها كأرباح أو مكاسب.


"وتتكوّن القُدرة الماليّة من موارد تمنحُ المنظمة القدرة على اغتنام الفرص والاستجابة للتّهديدات غير المتوقعة مع الحفاظ على العمليّات العامة لها وذلك من خلال الاعتماد على هيكل الأعمال أو الهدف الشّامل للمُنظّمة." (مُقتبس من Sontag-Padilla et al سنة 2012 الصّفحة 2.)


وتُأكّدُ ليون (2001) التي ألهمت الكثير من الباحثين التّنقيب عن هذا المفهوم الشّامل والمُتجدّد للقطاع غير الرّبحيّ على أنّ الاستدامة المالية تستند إلى أربعة أعمدة وهي أوّلًا التّخطيط الماليّ والاستراتيجيّ ثُمّ تنويع الدخل ثُمّ ثالثًا الإدارة السّليمة والتّمويل، وأخيرًا توليد الدّخل وهذه الأركان الأربعة هي محكٌّ جيّدٌ لنزع النظرية الحاليّة، خاصّةً وأنَّ الاستدامة المالية موضوع ٌمعقّدٌ وآراء ليون تُغطّي فيه المُتطلّبات الفنيّة الأساسيّة لا غير، لكنّني أعتقد أنه يمكننا توسيع فهمنا ليشمل أفكارًا جديدة مثل دور القيادة والإدارة التنظيميّة على أقلّ تقدير.


وعلى الرُّغم من أنّ الاستدامة الماليّة تُشكّل ضرورةً قُصوى، حيثُ وصل تمويل المُنظّمات غير الرّبحية في كندا على سبيل المثال إلى مرحلة حرجة، بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من المُنظّمات المُقيّدةٌ بعضُها مُهدّدٌ بشدة بسبب التّمويل غير المتناسق وغير الكافي، وبالتّالي فإنَّ أسباب انعدام الأمن هذه كثيرةٌ ومتنوعةٌ، ولكنّ النّتائج قد تُغيّر وجه المُجتمع المدني في جميع أنحاء البلد. 


وتواجه المُنظّمات ذات النفع المجتمعيّ، صغيرها وكبيرها خيارات صعبة، بعضها للمرة الأولى والبعض الآخر يدخل في أزمة ماليّة للمرّة الثّانية أو الثّالثة، ممّا يدفعُ بقضيّة الاستدامة المالية لتشكيل مُحرّك قويّ هادف للتّغيير بالنّسبة للقطاع غير الربحيّ وبالنسبة للمجتمعات ككُلّ.


ويُقال بأنّ هناك وقتًا يُمكن فيه تناول الاستدامة الماليّة بحماس وتفاؤُل: فمَصادر التّمويل الحكوميّة آخذةٌ في الاتّساع، والمُؤسّسات مرنةٌ، والجهات المانحة متاحةٌ، والوعي العامُّ أكثرُ اتّسامًا بالعقليّة المُجتمعيّة، كما أنَّ العطاء الذي تُقدّمه الشّركات آخذٌ في النُّمُوّ بسُرعة. 


ولكنّ العولمة، وتكنولوجيا المعلومات، والتصميم السياسي، والأسواق المالية غير الآمنة، جميعُها أنتجت بيئةً أقلّ اهتماماً بالمُجتمع المحليّ أو القضية أو الثقافة وأكثر اهتماماً بسلامة الأنظمة والنّتائج الواسعة النطاق التي تتناسبُ مع احتياجات مصادر التمويل، ويبدُو أنّ المُنظمات غير الربحية التي تُركّز على المجتمع أو القضيّة أو الثّقافة، أصبحت عتيقة الطراز وغير مُحدثة وخارطةً للحصول على الدعم لا غير.


إنّ المنظمات المدفوعة بمُهمّة مُعيّنة كما أُشير إلى ذلك لعقود من الزّمان، لديها قضايا الاستدامة المزدوجة، وتَتمحور مُهمتها الأولى حول تحقيق هدف تحكُمُهُ الخُطّة الماليّة والعمل على المحافظة عليه، يكون مدفوعًا بقيم المجتمع والبشريّة، تتمثّلُ مُهمّتهُ من الدّرجة الثانية في خلق نزاهة وإنتاجية المُنظّمة مع الحفاظ عليها لغرض تنفيذ المُهمة، وقد وُلدت معظم المنظمات غير الهادفة للربح من وراء غرض قويّ من الدرجة الأولى ويقودها الكثيرون. كما يعتقد الكثيرون أنّه إذا نجح الغرض من الدرجة الأولى، سوف يتمُّ آليًّا الاعتراف بالقيمة من قبل المُموّلين وسيتبع ذلك الأمن الماليّ.


والحقيقة هي أنّ افتراض القيمة الواضحة للمنظمات التي تعود بالنفع على المجتمع قد ولت: يجب إثبات كل شيء، إذ يُواصل المُموّلون الأقوياء والحازمون تضييق نطاق العمل من خلال تحديد النتائج المطلوبة بشكل أكثر إحكامًا، كما لو كانت المُجتمعات أو الأسباب أو الثّقافة مُجرّد سلسلة من المُؤشّرات القابلة للقياس.


ويُركز المُموّلون أيضًا على التكيّف مع الدّوافع الجديدة من الدّرجة الثانية: استدامة الممولين أنفسهم، وتُقدّم الرُّؤية العالية الحالية لـ "الابتكار الاجتماعيّ" مثالاً على التوتُّرات بين الماضي والحاضر.


وتظلُّ وجهة النّظر الكلاسيكيّة القائلةُ بأنّ المنظمات تحتاج إلى إنشاء قاعدة تمويل كبيرة ومتوازنة ومتنوعة تتضمّن المبيعات على أساس الرّسوم، وجمع الأموال على المدى الطويل بشكل مستدام، والدّعم المُستمرّ من المصادر المُؤسّسية صادقةً. ومع ضعف الدّعم المُؤسّسي، ولا سيّما في قطاعي البيئة والفنون، استجابت بعض المُنظّمات بالانتقال إلى الابتكار الاجتماعيّ وحلول المشاريع بدرجة أعلى من ذي قبل، وقد حقّقت نجاحًا، على الأقل في الأجل القريب. 

ولكن هل يُوفّر هذا التّوازن المُتغيّر أساساً للاستدامة المالية في الأمد البعيد؟ 


وتُبشّر المشاريع الاجتماعية الواسعة النطاق والابتكار الاجتماعيّ بتحقيق النّجاح للمُنظمات التي لديها جاذبيةٌ جماهيريةٌ وحلولٌ فعّالةٌ من حيث التّكلفة للقضايا الصّعبة، ولا سيّما تلك التي يمكن أن تحقق نتائج أفضل بزيادة حجمها. والعديد من المؤسسات الاجتماعية الصغيرة والمحلية ناجحةٌ، ولا تزال الابتكارات الاجتماعيّة على المستوى الجزئي توفر الطاقة وتجدُ حلولًا جديدةً للمشاكل التي تبدو مستعصيةً على الحلّ. ولكن تظلُّ هناك حاجةٌ مستمرةٌ إلى الالتزام السّياسي والمُؤسّسي بقضايا ومشاكل مُعقدة تتعلّقُ بالمُجتمع، أو القضايا، أو المشاكل الثّقافيّة، وهي مشاكلٌ لا تتّسم بقدر كبير من الجاذبيّة ولا تتمتع حتى الآن بحلول قابلة للتّطبيق وقابلة للتّطوير.



المصدر


  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

اشترك في نشرتنا البريديّة

scroll to top