في سياق ترجمة ونشر ورقة سياسات صادرة عن مؤسسة Criterion Institute بعنوان "إعادة تصميم الأوقاف من أجل التغيير الاجتماعي العميق"، والتي نشرها فريق "البنك الثالث" بعد مواءمتها محليًا، وردنا تفاعل علمي رصين من الدكتور عمر زهير حافظ، أوصله لنا مشكوراً الدكتور الدكتور عبدالله بن عبداللطيف الحميدي (رئيس مجلس إدارة جمعية دعم الأوقاف) يثير فيه الدكتور عمر حافظ مسألة جوهرية تتعلق بترجمة مصطلح Endowments إلى "أوقاف". ووجدنا في مداخلته فرصة لتوسيع النقاش حول هذا المصطلح، خصوصًا في ظل ما يشهده مشهد الأوقاف في السعودية من تطور وتشريع ومأسسة.
هذا المقال يوثّق تلك المداخلة، ويُحلل دلالاتها، ويطرح رؤية البنك الثالث حول الترجمة العلمية الرصينة التي توازن بين المصطلح الأجنبي والمفهوم الشرعي.
أولًا: خلفية المادة المترجمة
الورقة الأصلية التي ترجمها فريق "البنك الثالث" صادرة عن مؤسسة Criterion Institute، وهي جهة بحثية أمريكية رائدة تُعنى بإعادة تخيّل دور المال في دعم التغيير العادل للأنظمة الاقتصادية.
ورغم استخدام مصطلح "Endowments" فيها بمعناه الغربي القانوني، فإننا في الترجمة استخدمنا مصطلح "الوقف" بوعي لغوي، مع توضيحات سياقية لاحقة، نظرًا لتداخل المصطلحين وظيفيًا، لا شرعيًا.
ثانيًا: قراءة د. عمر زهير حافظ للمسألة
في تعليق ثري ومفصّل، أوضح الدكتور عمر زهير الفروقات الجذرية بين مفهوم الوقف في الفقه الإسلامي ومصطلح Endowment في السياق الغربي. ويمكن تلخيص أبرز ملاحظاته في أربع نقاط رئيسية:
-
الوقف له تعريف شرعي دقيق وأركان محددة، ولا يصح إطلاقه على صناديق الاستئمان (Trust Funds) الغربية التي قد تفتقر إلى هذه الأركان.
-
استخدام مصطلح الوقف على صناديق أجنبية يؤدي إلى التباس معرفي وتشويش في الثقافة الشرعية.
-
لا توجد فائدة حقيقية من هذا الخلط، بل قد يؤثر سلبًا على دقة المفاهيم لدى المتعلمين والعامة.
-
أصدرت مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، بمشاركة المملكة، تقريرًا بعنوان "التوصية 25 والوقف"، تضمن جدولًا يقارن بين الوقف الإسلامي وTrust Funds، وأظهر الفروق بوضوح.
وقد أرفق الدكتور نسخة من التقرير، ما يعزز القيمة التوثيقية لطرحه، وهو مرفق مع المقال في الأعلى.
ثالثًا: الفرق الجوهري بين الوقف وTrust Fund
رغم التشابه في الهدف (دعم العمل الخيري أو المجتمعي)، إلا أن الفروق بين الوقف الإسلامي وصناديق الاستئمان أو Endowments الغربية عديدة، منها:
-
المرجعية التشريعية: الوقف مستند إلى نصوص شرعية واجتهادات فقهية، بينما Trust Funds تنشأ من قوانين وضعية.
-
الحوكمة: الوقف له مجلس نظارة، ويخضع لشروط الواقف، بينما Trust Fund قد يكون تحت سلطة وصي واحد أو جهة تجارية.
-
الأهلية والنية: النية في الوقف عبادة، ويُشترط فيها الديمومة، بينما في بعض الصناديق الغربية قد تكون مؤقتة أو مشروطة بشروط تجارية.
-
أهداف الإنفاق: الوقف يهدف إلى تحقيق أجر وثواب دائم، بينما الصناديق الغربية تهدف غالبًا إلى الأثر المجتمعي بمعايير مختلفة.
رابعًا: رؤية "البنك الثالث" في التعامل مع المصطلح
نحن في "البنك الثالث" ندرك أن الترجمة ليست مجرد نقل حرفي، بل هي جسر معرفي بين ثقافتين. ومن هذا المنطلق:
-
نحرص على توضيح الفروق عند استخدام مصطلح "وقف" في المواد المترجمة.
-
نُفرّق بين الوقف كأداة تمويل في النماذج الغربية، والوقف كمصطلح شرعي له أركان وضوابط.
-
نلتزم في منشوراتنا باستخدام مصطلحات مثل: "الوقف بصيغته الغربية" أو "Endowment" ضمن قوسين عند الحاجة.
-
ندعو إلى إنتاج قاموس معرفي دقيق للمصطلحات الوقفية والمالية، يضمن عدم تسرب الدلالات غير المنضبطة.
دعوة مفتوحة للحوار العلمي
إن ما تفضل به الدكتور عمر زهير حافظ من ملاحظات دقيقة هو إثراء حقيقي للحوار العلمي حول الوقف، وتأكيد على أهمية صيانة المفاهيم الشرعية من التمييع أو الخلط، خاصة في زمن الانفتاح العالمي وتشابك الأنظمة.
وندعو من هذا المنبر كل الباحثين والشرعيين والاقتصاديين للمشاركة في هذا الحوار، وطرح مقترحات بنّاءة حول تطوير منظومة الترجمة والمواءمة الاصطلاحية.
فالمعرفة لا تنمو إلا بالحوار، والحكمة لا تكتمل إلا بالاختلاف المؤدّب، والوقف أمانة فكرية وثقافية قبل أن يكون أداة مالية.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟