في لحظة صادقة من الحوار مع الدكتور عبدالله بن عبداللطيف الحميدي (رئيس مجلس إدارة جمعية دعم الأوقاف، تسلل إلى الذاكرة سؤال لم يكن وليد تنظير أكاديمي، بل نتاج ملامسة يومية للمشهد العام: هل تمضي الدولة نحو تحويل الوزارات إلى كيانات غير ربحية؟ ليس بمعنى التخلّي عن مؤسساتها، بل بتحويل نمطها العقلي ووجهتها التنفيذية من سلطة إلى رسالة، ومن إدارة إلى معنى.
هذا السؤال ليس حيلة لغوية، بل هو قراءة متأنية في تحوّل حقيقي بدأت ملامحه تتضح في جسد الإدارة السعودية.
المظهر الخارجي لا يكفي لفهم الجوهر
قد يخطئ من يظن أن التحول يقتصر على إنشاء صندوق أو إطلاق جمعية مهنية أو إطلاق إدارة للتمكين. ما يحدث أعمق من ذلك. إننا نشهد تحوّلًا في عقل الدولة: من عقل يُملي ويُنفذ، إلى عقل يُمكّن ويُحفز ويضبط بذكاء تشريعي.
كل وزارة اليوم - دون مبالغة - تملك ذراعًا غير ربحي، سواء كان ظاهرًا في لائحة أو مخفيًا في سلوكها المؤسسي:
- إدارات للتمكين المجتمعي.
- صناديق متخصصة داخل الوزارات.
- جمعيات رديفة بمقاصد تكاملية.
وهذا لم يعد مقتصرًا على وزارات الشأن الاجتماعي والديني، بل طال الثقافة والترفيه والفنون، بل حتى التعليم والصحة والرياضة.
من منطق التحكم إلى منطق المعنى
التحول الذي نرصده لا يُقاس بعدد الجمعيات أو الصناديق، بل يُقاس بتغير منطق الدولة الداخلي. كأن الدولة تُعيد تعريف "القوة" لا بوصفها سيطرة، بل بوصفها احتواء وتمكين.
لقد انتقلت الدولة من عقلية "الدفع المباشر" إلى عقلية "مضاعفة الأثر". لم تعد تسأل: كم صرفنا؟ بل تسأل: كم غيّرنا؟ وما هو العائد الاجتماعي طويل المدى؟
هذا التحول، وإن بدا إداريًّا في ظاهره، إلا أنه في جوهره أخلاقي، وفلسفي، وتاريخي. كأنما الدولة تعيد اكتشاف الوقف في صورتها المعاصرة.
ما الذي يحدث فعلاً؟
- لم تعد الوزارة مركز القرار والتنفيذ، بل أصبحت منصة تشريعية للتوجيه والتمكين.
- لم تعد الإدارة هدفًا بحد ذاته، بل أداة للوصول إلى الشراكة المجتمعية.
- بدأنا نرى الكيان غير الربحي ليس كذراع مساند، بل كامتداد طبيعي لعقل الوزارة الحديث.
لماذا هذا التحول؟
لأن الدولة أدركت أن التنمية لا تُدار من قاعات الاجتماعات وحدها، بل من خلال شبكات الحياة الفعلية: جمعيات، أفراد، مبادرات، شراكات.
ولأن الإنفاق وحده لا يصنع التحول، بل يصنعه "الوجدان الجمعي" حين يشعر الناس أن المؤسسات ليست سلطة عليهم بل معنى لهم.
ولأن السياسات لا تنجح إذا لم ترتكز على مكوّن أخلاقيّ يجعل من العدالة والتمكين والإثراء أدوات قيادة لا أدوات تجميل.
إلى أين يمكن أن يصل هذا الاتجاه؟
- قد تُعاد صياغة دور الوزارات لتصبح "مُمكنات قطاعية".
- قد تزداد الجمعيات الرديفة التابعة للأجهزة الحكومية وتستقل تدريجيًا.
- قد يُعاد تعريف العائد الحكومي لا بالريال بل بالأثر.
الاسم ليس القضية. الفكرة هي المعركة
لن يشكل فارقًا كبيرًا إن استمرت التسمية بـ "وزارة" أو تحوّلت إلى "هيئة" أو "مركز" أو حتى "جمعية". لأن ما يتغير فعلاً هو بنية السلطة، وموقع الإنسان منها.
ولأن الدولة حين تعيد تعريف نفسها بوصفها ممكّنًا لا محتكرًا، فهي لا تضعف، بل تقوى. لا تتخلى عن دورها، بل ترتقي به من سطح التنفيذ إلى عمق التأثير.
وهذا هو جوهر التحول الذي يستحق أن نرعاه، لا بصفته مشروعًا إداريًّا فحسب، بل بصفته انتقالًا حضاريًا في معنى الدولة نفسها.
هنا، تبدأ مهمتنا كمهتمين بالقطاع غير الربحي: لا أن نصفق أو ننتقد، بل أن نقرأ، ونبني، ونتداخل مع هذا التحول لنصبح جزءًا منه لا متفرجين عليه.
بقلم: هلال بن حسين القرشي
رئيس تحرير "البنك الثالث"
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
