في مستهل الأسبوع الماضي، تشرفت – ممثلاً لمركز الإعلام التنموي – بزيارة صندوق البيئة، والجلوس مع فريق يعمل وكأن بينه وبين الأرض عهداً مكتوبًا.
لم يكن مجرد اجتماع، بل كان لقاءً مع نخبة تؤمن أن البيئة ليست قطاعًا خاضعًا للتنظيم فحسب، بل كيانًا حيًا يستدعي البصيرة لا البصر فقط.
سعادة الأستاذ ضويحي السهلي، وسعادة الأستاذ عدي أحمد، وسعادة المستشار الأستاذ محمد باقازي، لم يكونوا يتحدثون عن برامج أو تقارير، بل عن الإنسان الذي يقف خلف تلك الأنظمة، ويمنحها روحًا.
في الأسبوع ذاته، وعلى غير موعد، بدأت مشاهدة مسلسل "العبقري الصغير: ابن سينا" "Küçük Dahi: Ibn-i Sina" شدّني مشهد من مسلسل "العبقري الصغير" على منصة "تابي" "tabii"، حيث سرق الحارث أخاه ابن سينا، لا مالاً ولا علمًا، بل سرق الماعز التي كان ابن سينا قد سمّاها سقراط، في لفتة تعبيرية عن شغفه المبكر بالعلم والفلسفة. لم تكن تلك التسمية عبثًا، بل محاولة لبناء علاقة طبيعية إنسانية مع الحيوان، تبدأ من التسمية وتنتهي بالرعاية.
الماعز "سقراط" لم يكن مجرد كائن يُربى، بل شريك في تجربة وجدانية يومية، ولهذا كان الفقد قاسيًا حين باعه الحارث بثمن ثوبٍ يرتديه ليبدو وسيمًا في عيون من أحب.
وامتدّ المشهد إلى الجدّ، الرجل المسنّ الذي كان يُخرج الدجاج من القفص كل صباح في جولة "سياحية". لم تكن نزوة شيخ مسن، بل فلسفة نبوية راقية في التعامل مع الكائنات: أن تُمنح حريتها، أن تُقدّر حاجتها إلى الضوء والحركة، وأن يُعامل الحيوان بكرامة لا تقلّ عن كرامة الإنسان في موطنه.
وفي الجمعة، جاءت الخطبة لتكمل المشهد بخوف عمر بن الخطاب من أن تعثر بغلة في العراق، فيُسأل هو عنها.
الضمير الذي يسبق القانون
ثلاث لحظات لا يجمعها الزمان ولا المكان، لكنها تتآلف في فكرة واحدة: أن المخلوقات التي لا تنطق، تشهد.
تشهد على رحمة صاحبها، أو على جحوده.
تشهد على أن الإنسان لم يُخلق في هذه الأرض ليسودها، بل ليحفظها.
الخوف من سؤال البغلة ليس شعورًا طارئًا، بل وعيٌ راسخ بأن الكون لا يُدار بالمراسيم وحدها، بل بالمسؤولية التي تنبع من الداخل.
والرفق بالماعز "سقراط" والدجاج، ليس نكتة درامية، بل تربية عملية على أن ما حولنا من كائنات تحمل روحًا، وتستحق أن نُصغي لها، حتى وهي صامتة.
صندوق البيئة... ضمير مؤسسي جديد
ما لمسته في صندوق البيئة خلال لقائي بهم، هو محاولة تحويل ذلك الضمير القديم إلى سياسة عامة.
المبادرات التي يقودونها لا تسعى فقط إلى تنظيم، بل إلى إصلاح.
والمشاريع التي يُطلقونها لا تكتفي بحماية، بل تحاول إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والطبيعة: علاقة شراكة، لا هيمنة.
إن البيئة في رؤية هذا الفريق، ليست ملفًا بيروقراطيًا، بل أمانة حيّة تقتضي أن نعيد النظر في الطريقة التي نُخاطب بها الناس عنها، والطريقة التي نبني بها وعيًا مستقرًا تجاهها.
وكمركز إعلامي تنموي، ندرك أن الاتصال في مثل هذه القضايا لم يعد ترفًا، بل ضرورة أخلاقية واستراتيجية.
الإعلام البيئي... من الصوت إلى المعنى
ليس كافيًا أن نرفع صوتنا لحماية البيئة، إن لم نزرع في المجتمع معاني جديدة لعلاقته بها.
المعاني التي تجعل من التعامل مع الشجرة شرفًا، ومع الحيوان التزامًا، ومع النهر عهدًا.
المعاني التي تجعل من صورة البغلة في خطبة الجمعة، درسًا في الحوكمة، ومن دمعة "سقراط" في المسلسل، لحظة وعي بيئي خالص.
وهنا يتجلى دور الإعلام البيئي في صورته الأعمق:
أن يبني لغة تربط الناس بالأرض، لا عبر الأرقام فقط، بل عبر القصص، والرموز، والسلوكيات التي تُنبت في النفس إحساسًا جديدًا بالمسؤولية.
البيئة لا تشكو، لكنها تُدين
لقد منحتنا الأرض كل شيء، ولم تطلب شيئًا إلا أن لا نُثقل ظهرها.
لكننا، في لهاثنا وراء التوسع، نسينا أن البيئة إن لم تجد من يحميها، فإنها تنكسر بصمت... ثم تُسقطنا معها دون إنذار.
وصندوق البيئة، في صيغته المعاصرة، ليس جهازًا إداريًا فقط، بل جدار صدٍّ أخلاقيّ، ومحاولة لإعادة هيكلة الوعي العام حول البيئة كميراث لا كعبء.
من ابن سينا إلى عمر... ومن مركز إعلامي إلى مجتمع مسؤول
من "سقراط" الذي ارتبط بابن سينا، إلى البغلة التي خشي عمر سؤال الله عنها، يتشكل أمامنا خيط غير مرئي، يربط الإنسان بما حوله، ليس بالمنفعة، بل بالمروءة.
وهنا، فإن من واجب كل من يحمل رسالة إعلامية تنموية، أن يُسهم في تشكيل هذا الوعي، لا كفاعل إعلامي فقط، بل كشاهد على عصر، ومسؤول عن ميراث لم نصنعه، ولكننا مُكلّفون بصيانته.
فالبيئة لا تنتظر خطابًا سياسيًا، بل ضميرًا بشريًا حيًا، يعرف أن الدجاجة التي خرجت من قفصها في بيت الجدّ، ربما كانت أصدق تعبير عن الحرية من آلاف الخطب،
وأن الماعز التي سُمّيت سقراط، وفارقت صاحبها، ربما فهمت من الوفاء أكثر مما يُكتب في دواوين الحكمة،
وأن البغلة، التي لم تتكلم، ما زالت تكتب تاريخ العدل في صمتٍ أشد فصاحة من الكلام.
أترككم مع مقاطع من الحلقة الأولى من مسلسل العبقري الصغير، حيث لا يُروى علم ابن سينا في قاعات الدرس، بل في لحظة حنان مع ماعزٍ أسماه "سقراط"، وفي حوارٍ صامت مع جدٍّ كان يُخرج الدجاج من القفص، لا ليأكل، بل ليرى الشمس.
هناك، في تلك التفاصيل الصغيرة، تتجلى التربية البيئية الأولى... لا بالشعار، بل بالفعل.
ولا بالتنظيم، بل بالرؤية التي ترى في الكائنات الأخرى جزءًا من أمانة الإنسان على هذه الأرض.
ربما تبدأ الحكاية من هناك...
من رعاية ما لا يتكلم، والإصغاء إلى ما لا يشتكي.
هلال بن حسين القرشي