قراءة في دوافع العطاء من وحي كتاب "سيكولوجية جمع التبرعات"

ع ع ع

كثيرًا ما نطرح هذا السؤال في الحملات، في تقارير الأثر، وحتى في الاجتماعات اليومية: لماذا يتبرع الناس؟ لكن الإجابات المعتادة من نوع "لأنهم يحبون الخير" أو "لأنهم يؤمنون بالقضية" لم تعد كافية لإقناع فريق التسويق أو تطوير الاستراتيجية.

بعد قراءة متأنية لكتيب "سيكولوجية جمع التبرعات"، الصادر عن أكاديمية الفوزان، بدت الصورة أكثر وضوحًا، وإن كانت أكثر تعقيدًا. العطاء لا ينطلق من منطقة منطقية بقدر ما ينطلق من لحظة شعورية محفّزة. الفارق بين حملة ناجحة وأخرى، ليس فقط في الوسيلة بل في الرسالة التي تُوجه للعقل والقلب معًا.


ما المقصود بسيكولوجية التبرع؟

كلمة "سيكولوجيا" تُشتق من الكلمة اليونانية القديمة "Ψυχή" (psyche) والتي تعني الروح أو النفس، و"λόγος" (logos) وتعني دراسة أو علم. ومن هنا، أصبحت السيكولوجيا علم النفس: دراسة العقل والسلوك الإنساني.

عندما نربط هذا المفهوم بالعطاء، فإن "سيكولوجية التبرع" تشير إلى فهم الدوافع النفسية التي تجعل الفرد يتخذ قرارًا بالعطاء. ما الذي يحرّك إنسانًا ليتبرع؟ هل هو الشعور بالذنب؟ التعاطف؟ الرغبة في الانتماء؟ أم البحث عن معنى؟

هذا الحقل يركز على تلك اللحظة الدقيقة التي تتحوّل فيها النية إلى فعل، ويكشف عن العوامل التي تؤثر في تلك اللحظة: من طريقة الطلب، إلى صيغة الرسالة، إلى هوية المستفيد.

الحديث عن التبرع لا يكتمل دون العودة إلى ما يسميه علماء النفس بـ"psychology of giving"، أي سيكولوجية العطاء. هذا الحقل يدرس كيف ولماذا يتخذ الأفراد قراراتهم بالعطاء، وما الذي يدفع أحدهم لفتح محفظته فيما يتردد آخر.

الأمر لا يتعلق فقط بالإيمان بالقضية، بل بعوامل أعمق تتعلق بالإدراك، والمشاعر، والسياق الذي يُطرح فيه طلب التبرع. السيكولوجيا لا تفسر الظاهرة فحسب، بل تكشف عن أدوات لتحسين التفاعل مع الجمهور.


ما يكشفه الكتاب من زوايا خفية

1. صياغة الطلب تغير الاستجابة

حين يُسأل الناس عن وقتهم قبل مالهم، تكون استجابتهم أقوى. السبب؟ الوقت يقود إلى التفكير في التجربة، أما المال فيستدعي الحساب. الأولى تُثير عاطفة، الثانية تُفعّل حذرًا.

2. التبرع لشخص لا لقضية

رأيت في الكتيب إشارات متكررة إلى أن القصص الفردية تتغلب على البيانات العامة. صورة واحدة لفتاة تبتسم وسط أزمة غذائية أقوى من رسم بياني يعرض أعداد المتضررين. لأن الناس يتعاطفون مع من يمكنهم تسميته، لا مع من يُختزل في رقم.

3. حين تكون الأرقام عبئًا

تُخطئ كثير من المنظمات حين تبدأ خطابها بالإحصائيات. الكتيب يذكّر بأن كثرة الأرقام تخلق ما يُعرف بـ"التخدّر النفسي"؛ نبدأ في تجاهل الأثر بدلًا من الإحساس به.

4. التعب يمنح التبرع معنى

في باب لافت، يعرض الكتاب ظاهرة يعرفها العاملون في الميدان: التبرعات ترتفع عندما يكون هناك مجهود. ماراثون، تسلّق، تحدٍّ بدني... لأن الألم الشخصي يعطي للمانح شعورًا بأن عطاءه كان مكلفًا، وبالتالي أكثر قيمة.

5. تشتت النية يخفض الأثر

يتناول الكتيب أيضًا نزعة الناس لتوزيع تبرعاتهم على جهات كثيرة، وهو ما قد يُضعف الأثر الكلي. ويقترح ممارسات ذكية لتوجيه القرار نحو جهة واحدة دون أن يشعر المتبرع بالتقييد.

6. ما يهم المانح فعلاً

المانح لا يتعمق غالبًا في الميزانيات. لكنه يتأثر بما يراه من أثر. لهذا فإن عرض الصور، والشهادات، وقصص التحول، وحتى رموز الثقة مثل الشعارات الرقابية، تترك انطباعًا يتجاوز الأرقام.


في الختام

لم يكن هذا الكتاب مجرد مرجع معرفي، بل رحلة لفهم طبقات القرار لدى من نطلب منهم الدعم. لقد غيّر فيّ شيئًا، في الطريقة التي أكتب بها رسائل الحملة، وفي الصيغة التي أختارها لصورة الغلاف، وحتى في ترتيب الأسئلة أثناء اللقاء الأول مع الداعمين.

أنصح كل من يعمل في تطوير الموارد، في كتابة الخطابات، أو حتى في التخطيط للحملات أن يقرأ هذا الكتيب لا كقارئ، بل كمن يتهيأ لصياغة سلوك جمهور كامل.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

اشترك في نشرتنا البريديّة

scroll to top