تحليل نقدي للحلقة الأولى من الموسم الثاني لبودكاست "حكاية القطاع"

ع ع ع


عنوان الحلقة:

800  مليار على الطاولة: هل القطاع غير الربحي جاهز للعب مع الكبار؟

حين يُطرح عنوان بهذه الصيغة في فضاء إعلامي ناضج، يتوقع المستمع أن يجد أمامه مادة تتناول – على نحو علمي وواضح – موقع القطاع غير الربحي في الخريطة الاقتصادية الوطنية، لا بوصفه كيانًا مكملاً، بل باعتباره أحد روافد الناتج المحلي الإجمالي. التوقع المنطقي أن تُعرض أرقام، تُفكك قطاعات، تُناقش سياسات، وتُربط المؤشرات الاقتصادية بالتغيرات الهيكلية والتنظيمية في بنية القطاع.

غير أن الحلقة – رغم ما اتسمت به من عمق سردي وثراء موضوعي – سلكت طريقًا آخر: أقرب إلى التأملات الجماعية والنقاشات المفتوحة منها إلى العرض التحليلي البنيوي، مما يجعل الفجوة بين العنوان والمضمون واضحة لمن ينتمي للمدرسة الأكاديمية أو يعمل في مؤسسات القرار.

 

البنية الخطابية: بين الطموح الإعلامي والنقص التحليلي

الحلقة تبدأ ببنية خطابية تعتمد الإشراك الشخصي للمستمع، عبر الحوار التفاعلي، واستدعاء مشاعر الترقب والتفاؤل. هذا الأسلوب، وإن نجح في جذب الانتباه، إلا أنه لم يُترجم لاحقًا إلى طرح موضوعي يُوازن بين القصص والخلاصات. فالمساهمة في الناتج المحلي ليست مجرد فكرة ملهمة تُثار في سياق حواري، بل هي مفهوم اقتصادي مركّب يُقاس بمؤشرات صريحة ويُقوّم ضمن جداول زمنية واضحة.

 

من الذكاء الاصطناعي إلى المساجد: تشتّت المسار التحليلي

عُرضت في الحلقة مجموعة من المحاور ذات الصلة بالقطاع غير الربحي، منها أثر الذكاء الاصطناعي، دور المساجد، التمويل الخاص، وقضايا الحوكمة. لكنها جاءت كمجموعة وحدات متجاورة لا كنظام متماسك من الأفكار، غابت عنها الروابط المنهجية التي تربط هذه المحاور كلها بالعنوان الرئيسي للحلقة.

فالذكاء الاصطناعي طُرح كأداة، لا كتحوّل استراتيجي يمكنه أن يعيد تعريف الإنتاجية في القطاع. والمساجد وُصفت كمجتمعات مهمّشة إداريًا، دون أن يُدرس أثرها الاقتصادي الحالي أو إمكانياتها المستقبلية ضمن الناتج المحلي. أما التمويل، فبُحث بوصفه تجربة لا نموذجًا يمكن تكراره أو تحليله وفق نظرية القيمة المضافة.

 

غياب النمذجة الاقتصادية

ما افتقدته الحلقة تحديدًا هو الإطار النظري الاقتصادي. لم يُذكر ما إذا كانت مساهمة القطاع تُحتسب ضمن الناتج المحلي بطريقة مباشرة (كالرواتب والتشغيل والخدمات) أو غير مباشرة (كخفض العبء عن الدولة، وتوليد رأس مال اجتماعي). كما لم يُوضّح موقع السعودية بالمقارنة مع دول أخرى ضمن مجموعة العشرين، أو حتى مع الدول النامية المشابهة في البنية الديموغرافية والاقتصادية.

في كل الأدبيات التي تتناول قياس مساهمة القطاعات غير الربحية، يُفترض عرض ثلاثة عناصر رئيسية:

  1. إجمالي الإنفاق السنوي للقطاع ومقارنته بالناتج المحلي.
  2. عدد الوظائف التي يوفرها القطاع ونسبته من إجمالي القوى العاملة.
  3. حجم التدفقات التمويلية (حكومية، خاصة، دولية) الداخلة للقطاع وتأثيرها.

هذه العناصر غابت تمامًا، أو لم تُذكر إلا تلميحًا، في حين أن الحلقة وُضعت تحت عنوان يُفترض أن يشتبك معها مباشرة.

 

النبرة الإعلامية: هل خدمت الموضوع؟

من الناحية التحريرية، الحلقة كانت منضبطة في الأسلوب، مرنة في الأداء الصوتي، واعية بسياق جمهورها. لكنها تبنّت ما يمكن تسميته بـ"نبرة النصح العام"، وهي النبرة التي تصلح لحلقات توعوية، لكنها تفقد فاعليتها حين يكون الموضوع متعلقًا بمؤشر اقتصادي تقوده الدولة وتدقق عليه وزارة المالية ومراكز الاستشراف الوطني.

أيّ جمهور يسعى لفهم مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي يريد أكثر من قصة وتجربة؛ يريد تحليلًا مقارنًا، عرضًا بيانيًا، وربطًا مباشرًا بين القرارات والمخرجات.

 

توصية

لو قُدّمت هذه الحلقة في سياق حلقة دراسية متقدمة في الاتصال التنموي بجامعة هارفارد، لكانت الملاحظة الأساسية على الطالب المُعدّ هي:

"الطرح واعد ومتحمس، لكنه لم يُثبت علاقته بالبنية الاقتصادية التي اختارها عنوانًا له. نحتاج إلى عودة للمصادر الرسمية، وإعادة تنظيم المادة وفق إطار تأثير-مؤشر-مقارنة."

 

خاتمة

الحلقة كانت ناجحة في استثارة النقاش، لكنها لم تكن وفية للعنوان من حيث العمق والمحتوى التحليلي. قد يكون من الأنسب اعتبارها مقدمة تمهيدية لحلقات لاحقة أكثر تخصصًا، تعيد طرح العنوان لا كحافز على الكلام، بل كمحور للمساءلة الاقتصادية والحوكمة التنموية.

في إعلام القطاع غير الربحي، لا تكفي النوايا الطيبة والقصص المؤثرة. ما يُقنع صانع القرار والممول والمواطن على حد سواء، هو أن تقول: هذا هو الرقم، هذه هي الأداة، وهذا هو الأثر.

وذلك ما لم يُنجز بعد.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top