هذا المقال محاولة لقراءة الكتاب بعين العامل في القطاع غير الربحي؛ العامل الذي يُطلب منه «دراسة احتياج» و«فهم واقع المستفيدين»، بينما هو – غالبًا – بعيد عن أحيائهم ولغتهم وآلامهم الحقيقية.
«روبرت تايلور»… الحارة التي لم يفهمها أحد
يصف فينكاتيش مجمّع «روبرت تايلور» جنوب شيكاغو بوصفه عالمًا له لغته وقيمه ونظامه الداخلي؛ مجتمعًا متماسكًا يحاول حماية نفسه من الفقر والعنصرية والتهميش.
الدولة بنت المباني ثم تركتها تتداعى، والبرامج الاجتماعية لم تعد تكفي لتأمين الغذاء والرعاية الصحية، فامتلأ الفراغ بالعصابات التي فرضت قوانينها الخاصة.
من بعيد، تبدو الصورة بسيطة: حيّ فقير تسيطر عليه عصابات مخدرات. لكنّ معايشة المكان لسنوات كشفت للباحث أن:
-
كثيرًا من الأسر كانت ترى في العصابات «نظامًا بديلًا» يوفّر الحماية والدخل.
-
الشباب لا يختارون الجريمة حبًّا في العنف، بل هربًا من انسداد الفرص القانونية.
-
وسط العنف، ظلّت هناك إنسانية؛ جيران يعاونون بعضهم، وأعياد تُحتفَل، وعلاقات قويّة تتشكّل.
هذا التناقض بين النظرة من بعيد والحياة من الداخل هو بالضبط ما يواجهه القطاع غير الربحي حين يكتفي بصور ذهنية جاهزة عن «الفقراء» و«الأحياء المهمّشة» دون أن يذهب ليعيش بينهم ولو لبعض الوقت.
بين الاستبيان والمعايشة… حدود البيانات الباردة
هذا المشهد يعرّي شكلًا من أشكال «دراسة الاحتياج» الذي نمارسه أحيانًا في المنظمات:
-
نموذج جاهز من الأسئلة.
-
زيارة خاطفة لحيّ أو قرية.
-
أرقام تُجمَع، وجداول تُملأ، ثم تعود الفرق إلى مكاتبها.
النتيجة: بيانات كثيرة، وفهم قليل.
في المقابل، اختار فينكاتيش طريقًا آخر؛ ترك كرسي الباحث خلف الزجاج، وبدأ يعيش في الحي، يجلس مع العصابات، يحضر مناسباتهم، يراقب تفاصيل يومهم. تحوّلت الدراسة من «أسئلة مكتوبة» إلى «حياة مشتركة».
دروس للقطاع غير الربحي:
-
الاستبيان مهم، لكنه ليس البداية؛ البداية هي بناء الثقة والدخول في عالم الناس بلغتهم.
-
الملاحظة المباشرة لا تُعوّض؛ لا يمكن فهم سياق الفقر من دون رؤية البيوت، والمدارس، والأسواق، وطريقة الحديث بين الناس.
-
الوقت جزء من المنهج؛ دراسة الاحتياج لا تُنجز في يوم تصوير أو ورشة وحيدة، بل تحتاج نفسًا طويلًا.
الجريمة ليست نقيض الإنسانية… بل أحيانًا قناعٌ لها
في أحد المقاطع اللافتة في الملخص الذي سمعته على «وجيز»، يقول فينكاتيش – في جوهر المعنى – إن وسط العنف والجريمة كان يرى عالمًا لم يفقد إنسانيته؛ عصابات تتاجر بالمخدرات وتبتز، لكنها في الوقت نفسه مجتمع مترابط، يدافع عن أفراده، ويحتفل معهم، ويعيش طقوسه الخاصة.
هذا لا يعني تبرير الجريمة، لكنه يذكّرنا بأن:
-
المستفيد الذي نقابله في الجمعية ليس «ملفًّا» ولا «رقم هوية»، بل إنسان يحمل تناقضات مثلنا.
-
الشاب المتورّط في سلوك منحرف قد يكون في الوقت نفسه ابنًا بارًّا أو أخًا حنونًا أو جارًا كريمًا.
-
التدخّلات الاجتماعية التي تتجاهل هذه الإنسانية المعقّدة تتحوّل بسهولة إلى أحكام عامة وإلى مشاريع تربيّة وعظية أكثر منها برامج تنمية.
العمل غير الربحي المبني على معايشة الاحتياج لا يهرب من هذه التعقيدات؛ بل ينظر إلى المستفيدين كما هم، لا كما نحب أن يكونوا، ثم يحاول أن يفتح لهم مسارات مختلفة، لا أن يعاقبهم على ماضيهم.
حين يتحالف القانون مع القوة… من يحمي الضعفاء؟
أحد أكثر أجزاء الكتاب قسوة هو ما يرويه فينكاتيش عن الشراكة غير المعلنة بين الشرطة والعصابات في شيكاغو؛ كيف يمكن للقانون أن يتحوّل إلى مظلّة تحمي الأقوياء وتترك الفقراء وحدهم في مواجهة العنف والمخدرات.
من زاوية القطاع غير الربحي، يذكّرنا ذلك بأمرين:
-
أنظمة الحماية ليست كافية وحدهاوجود لوائح وأدلة حوكمة وتعاميم من الجهات المنظمة مهم، لكنه لا يضمن العدالة إذا لم تُترجم إلى إجراءات تراعي الضعفاء. يمكن لآلية التقديم على المساعدة أن تكون «قانونية» لكنها في الحقيقة تعيق الأكثر احتياجًا بسبب التعقيدات الورقية أو شروط الإثبات الصعبة.
-
دور الجمعيات ليس فقط تقديم الخدمة، بل مناصرة العدالةعندما تكتشف الجمعية – من خلال معايشتها للأحياء – أن هناك خللًا هيكليًا يكرّر الفقر (تمييز في سوق العمل، سكن غير آدمي، عنف أسري ممنهج…) يصبح من مسؤوليتها أن ترفع صوتها، وأن تنقل هذه الحقيقة لصانعي القرار، لا أن تكتفي بتوزيع المعونات.
القانون يمكن أن يخدم التنمية إذا وُضِع في يد من يبحث عن العدالة، ويمكن أن يرسّخ الظلم إذا استُخدم لحماية المصالح فقط. وهذه الحقيقة لا نراها إلا عندما نقترب من الواقع كما فعل فينكاتيش.
القرب الخطِر… كيف نعيش مع الناس دون أن نفقد المسافة المهنية؟
يصف الكاتب علاقته بزعيم العصابة «جي تي» بأنها كانت «علاقة غير عادية، وغامضة أخلاقيًا» لكنها أيضًا قوية لدرجة أن الزعيم شعر بأنه مدين له شخصيًا عندما ساعد في إنقاذ حياة أحد أصدقائه. هذه العلاقة تكشف ثمن المعايشة الميدانية: كلما اقتربت، زادت مسؤوليتك، وازداد خطر الانحياز.
في العمل غير الربحي، يواجه العامل الميداني معضلة مشابهة:
-
إذا ظل بعيدًا، بقيت برامجه سطحية ومجرّدة.
-
وإذا ذاب تمامًا في المجتمع الذي يخدمه، فقد القدرة على اتخاذ قرارات صعبة، أو تقييم المخاطر، أو توقّع الآثار الجانبية.
المطلوب هو قرب محترف:
-
نصغي بعمق لقصص الناس، لكن لا نسمح لقصص فرد واحد أن تختطف تصميم البرنامج كله.
-
نبني علاقات ثقة، لكن نوضح – لأنفسنا وللمستفيد – حدود هذه العلاقة، وأننا نمثّل مؤسسة لها ضوابط.
-
نسمح للواقع أن يغيّر افتراضاتنا، دون أن يجرّنا لتبرير سلوكيات مدمّرة بحجة «التفهم».
فينكاتيش تعلّم من تجربته أن الدخول لعالم الناس ليس قرارًا أخلاقيًا بسيطًا؛ بل مسؤولية تحتاج إلى وعي، وهذا درس مهم لكل جمعية ترسل فرقها إلى الميدان.
ما هي «دراسة الاحتياج» حين نأخذها على محمل الجد؟
لو حاولنا تلخيص الدروس التي يقدّمها لنا الكتاب في شكل مبادئ عملية للقطاع غير الربحي، يمكن أن نقول إن دراسة الاحتياج القائمة على المعايشة تعني على الأقل أربعة أمور:
1. النزول من المكاتب إلى الميدان
2. إشراك أهل الحي في تعريف مشكلاتهم
هذا يحمينا من تصميم مشاريع تعالج «مشكلتنا نحن» لا مشكلتهم هم.
3. النظر إلى البنى المعطِّلة لا الأعراض فقط
الكتاب يربط بين الفقر، والتمييز العنصري، وسوق العمل، والتعليم، وتجارة المخدرات. بهذه الرؤية، لا تعود المشكلة «شبابًا منحرفًا»، بل منظومة كاملة تدفعهم نحو هذا المسار.
في القطاع غير الربحي، يعني هذا أن:
-
مساعدة الأسرة في دفع الإيجار مهمّة، لكن علينا أيضًا أن نسأل عن سوق السكن، وأنظمة الدعم، وفرص العمل في المنطقة.
-
برنامج التقوية الدراسية للأطفال جميل، لكن ماذا عن نوعية المدرسة، وازدحام الفصول، وقدرة الأسرة على متابعة الأبناء؟
4. الزمن شريك في الفهم
فينكاتيش قضى سنوات في الحي، رأى صعود العصابة وهبوطها، تغيّر القوانين، تحوّلات السوق، وخرج بخلاصة مختلفة تمامًا عن تلك التي بدأ بها.
الجمعيات التي تغيّر مناطق عملها كل عام، أو تغيّر أولوياتها مع كل منحة جديدة، تحرم نفسها من هذا العمق الزمني. دراسة الاحتياج ليست تقريرًا يُرفع في بداية المشروع فقط، بل مسارًا مستمرًا من التعلم والتعديل.
من «زعيم عصابة ليوم واحد» إلى «قائد مبادرة لسنوات»
ربما لم يكن قصد مؤلف الكتاب أن يكتب دليلًا للعاملين في القطاع غير الربحي، لكنه قدّم – دون أن يشعر – أقرب نموذج حيّ لما نسميه اليوم «البحث التشاركي» أو «التنمية المبنية على المجتمع المحلي».
الفرق بين عالم العصابات الذي رآه، وبين كثير من برامجنا الخيرية، ليس في شدة الفقر ولا في حجم الألم، بل في طريقة النظر:
-
العصابات رأت في الفراغ فرصة للسيطرة والكسب.
-
المنظمات غير الربحية مدعوة أن ترى في الفراغ نفسه فرصة للعدل والتمكين وبناء البدائل.
حين نخلع المعطف الرسمي وندخل الحارة
هل أعرف حقًا ما يعنيه أن أكون «مسؤول برنامج كفالة»، أو «مدير مبادرة تمكين»، أو «باحث احتياج»، قبل أن أعيش يومًا واحدًا كاملًا مع الأسر التي أزعم أنني أعمل من أجلها؟
كتاب «زعيم عصابة ليوم واحد» يذكّرنا بأن العدالة الاجتماعية لا تُصنع من تقارير ممتازة فقط، بل من عيون ترى الواقع عن قرب، وقلوب تتحمّل التناقض، وعقول قادرة على تحويل هذا الفهم العميق إلى برامج أكثر إنسانية وفعالية.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
