تقليص الهدر في الإنفاق الحكومي لا يعني تقليص الرعاية أو التخلي عن الفئات الهشة. بل هو نداء للبحث عن وسائل ذكية لضمان استمرار الخدمات الأساسية، مع مضاعفة فاعلية كل ريال يُنفق. هنا في المملكة، وبالتكامل مع هيئة كفاءة الإنفاق والمشروعات الحكومية، يصبح السؤال المحوري: كيف نوظف الموارد بكفاءة دون الإضرار بمن يحتاجونها؟
في التجربة الأمريكية، وتحديدًا في ولاية أيداهو، ظهرت ممارسات رائدة يمكن الاستفادة منها محليًا، وقد وثّقتها منظمة "شركاء أيداهو من أجل الخير" (Idaho Partners for Good). ركّزت هذه التجربة على أن الحل ليس في التقشف، بل في الاستثمار في القطاع غير الربحي، وتعزيز الحلول المجتمعية، وضمان الاستدامة الاجتماعية والمالية معًا.
1. الهدر الحكومي.. هل نعترف به؟
الخطوة الأولى نحو الإصلاح هي الاعتراف بالمشكلة. فحتى على المستوى الفيدرالي الأمريكي، تعهّد الرئيس ترامب بتقليص الهدر، دون أن يعني ذلك إلغاء الخدمات. بل إن البيانات في مجالات الصحة والتعليم والعلوم تؤكد أن كثيرًا من التحديات المزمنة تتطلب حلولًا متخصصة موجهة لفئات بعينها: كالأطفال، وكبار السن، وذوي الإعاقة. لذلك، فإن إعادة هيكلة التمويل يجب أن تكون دقيقة لا عشوائية.
2. التوازن بين الانضباط المالي والأثر الاجتماعي
من الخطأ معالجة الهدر بفأسٍ واسعة. ما نحتاجه هو مشرطٌ دقيق. صحيح أن كفاءة الإنفاق ضرورة وطنية، لكن الأهم أن يتم ذلك دون ترك الفئات الضعيفة تسقط من الحافة. والمملكة تمتلك في هذا السياق بنية مؤسسية متكاملة من أبرزها المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، القادر على هندسة هذا التوازن بين المسؤولية المالية والواجب الاجتماعي.
3. لا تُلغِ التمويل.. حسِّن الأداء
بدلًا من قطع التمويل عن المنظمات المتعثرة، لماذا لا نمنحها فرصة للتحسين؟ تطوير القيادة، ورفع كفاءة العمليات، والقدرة على قياس الأثر يمكن أن يُحوّل منظمة متوسطة إلى رائدة. المطلوب هو تحسين لا إقصاء.
4. دعم الحلول المحلية المجتمعية
المنظمات المحلية أكثر قدرة من الأجهزة المركزية على فهم واقعها. منحها دور القيادة في تصميم الحلول وتنفيذها يقلل البيروقراطية ويزيد من وصول الخدمة. وقد نجحت أيداهو في استخدام المنح المجزأة (Block Grants) وتوفير قدر أكبر من المرونة المحلية، وهو ما يمكن تطبيقه في المملكة في قطاعات مثل التمكين الأسري والتنمية المجتمعية.
5. بناء القدرات وتقليل الاعتمادية
التمويل الحكومي يجب أن يكون وسيلة لبناء القدرات، لا وسادة اعتيادية. المطلوب هو دعم يعزز الحوكمة، ويُسرّع تنويع مصادر الدخل، ويقلل الاعتمادية طويلة المدى على الدعم الحكومي.
6. تحفيز الاستثمار الاجتماعي والتمويل الأهلي
تقليص حجم الحكومة لا يعني خنق المنظمات. بل ينبغي تعزيز الحوافز للتمويل الخاص، وريادة الأعمال الاجتماعية، والاستثمار ذي الأثر. أيداهو طوّرت بيئة حاضنة للمستثمرين الاجتماعيين، وأكدت أن الحوافز الضريبية (مثل توسيع خصومات التبرعات) قادرة على سد الفجوات التمويلية. المملكة تملك بنية قانونية وتنظيمية تجعلها بيئة واعدة لهذا النوع من الاستثمار.
7. لا تترك الفئات الهشة بلا بدائل
الإصلاح لا يعني القطيعة. بل ينبغي أن يصاحبه دعم انتقالي ذكي: برامج تأهيل مهني، دعم نقدي مؤقت، مساكن انتقالية. المهم أن يشمل الحل منظومة متكاملة: الغذاء، السكن، ورعاية الأطفال. بهذه المقاربة، يمكن تقليل الدعم تدريجيًا دون أن ينهار الأمان الاجتماعي.
8. إصلاح البيروقراطية.. لا تأبيدها
كثير من البرامج الحكومية تستهلك وقتًا وموارد في الإجراءات الإدارية أكثر مما تُحدثه من أثر. تبسيط الإجراءات، تقليل المتطلبات الورقية، وإعادة تصميم عمليات التقديم والتقارير—كلها ضرورات لتعظيم الأثر. لا يمكن أن يُستهلك موظف كامل فقط لتغطية متطلبات التقرير.
9. التكنولوجيا كأداة للشفافية والرقابة
الرقمنة ليست ترفًا، بل رافعة للشفافية وتقليل الفساد وتعزيز الثقة. عبر أدوات التتبع الذكي وقياس الأثر الرقمي، يمكن للحكومة والممولين الخيريين التأكد من أن الأموال تُستخدم كما يجب.
10. معادلة المستقبل: حكومة أصغر، قطاع غير ربحي أقوى
الإصلاح الذكي لا يعني تقليص الناس، بل تقليص الهدر وتعظيم الأثر. والاستثمار في المنظمات غير الربحية، ودعم الحلول المجتمعية، وتوفير بيئة مرنة وممكنة، هو ما يجعل كل ريال يُنفق أداة لبناء وطن أكثر عدالة واستقرارًا.
ومع التزام رؤية 2030 بإشراك القطاع غير الربحي في الناتج المحلي الإجمالي، وتطوير البنية المؤسسية لدعمه، فإن الفرصة مهيأة لإعادة تصميم العلاقة بين المال العام والخير المجتمعي.
مترجم بتصرف من :
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
