5 طرق لتحويل التنوع إلى قيمة مضافة في بيئة عمل المنظمات غير الربحية

ع ع ع

في بيئة العمل الحديثة، لم يعد "التنوّع" شعارًا أخلاقيًا يُرفع، ولا بندًا في تقارير المسؤولية الاجتماعية؛ بل أصبح ضرورة استراتيجية لإدارة المؤسسات، خصوصًا تلك التي تتعامل مع المجتمعات بشكل مباشر، مثل المنظمات غير الربحية.
فقد أثبتت الدراسات أن فرق العمل المتنوعة، عندما تُدار بوعي، تتفوق في الإنتاجية، والابتكار، وحل المشكلات، مقارنة بالفرق المتجانسة.

وفي هذا الإطار، نعيد في البنك الثالث تقديم محتوى مقال تحليلي نشرته كلية هالت الدولية لإدارة الأعمال بعنوان:
Promoting Diversity in the Workplace
مع توسّع في التحليل، واستحضار أمثلة، وإسقاطات عملية على واقع القطاع غير الربحي في السعودية.


1. التنوّع يبدأ منك: طوّر كفاءتك الثقافية

أحد أهم ما يؤكد عليه المقال الأصلي من كلية هالت الدولية هو أن إدارة التنوّع لا تبدأ من الإدارة العليا ولا من السياسات، بل من الوعي الذاتي لكل فرد في الفريق.

التنوّع لا يعني فقط قبول وجود زميل مختلف عنك، بل أن تُدرك أنك بحاجة إلى إعادة النظر في عدساتك الثقافية التي ترى بها الآخرين.
وهنا يأتي مفهوم "الكفاءة الثقافية" (Cultural Competency)، وهي القدرة على:

  • فهم القيم والعادات والسلوكيات المختلفة عن بيئتك.

  • تعديل تواصلك وأساليبك بما يناسب السياق الثقافي لمن تتعامل معه.

  • إدراك تحيزاتك اللاواعية، والعمل على تخفيف أثرها.

أمثلة تطبيقية في القطاع غير الربحي:

  • في إحدى الجمعيات داخل المملكة، أعدّ موظف علاقات عامة خطابًا موجّهًا لأحد الشركاء المحليين في منطقة مختلفة ثقافيًا عن منطقته.
    استخدم أسلوبًا رسميًا جافًا كما اعتاد في بيئته، لكن الاستجابة جاءت فاترة.
    استشار أحد الزملاء الملمين بثقافة المنطقة المستهدفة، وأعاد الصياغة بلغة أقرب لنمطهم الاجتماعي، تتضمن عبارات تقدير جماعي وتواصل وجداني.

    بعدها جاء الرد سريعًا وحيويًا، وبدأت العلاقة تتطور بثقة ووضوح.

  • متطوعة وافدة تشعر بالتهميش في الاجتماعات لأن زملاءها المحليين يتحدثون بلهجة محلية سريعة. الموظف المسؤول انتبه لذلك وبدأ بالشرح والتبسيط عند اللزوم، ما عزز من اندماجها وثقتها.

إسقاط على السياق المحلي:

في السعودية، حيث يختلط الموظف النجدي بالحجازي، ويعمل مع زملاء من جنسيات آسيوية وعربية وأفريقية، يصبح امتلاك الكفاءة الثقافية أداة للنجاح الإداري، لا مجرد لباقة اجتماعية.
المؤسسة التي تدرب موظفيها على هذه المهارة، وتُقيّمها، وتُكافئ من يمتلكها، هي التي تستثمر في رأس المال البشري على مستوى عميق.


2. وسّع زاوية الرؤية: اطلب رأيًا لا يُشبهك

من أكثر النقاط ذكاءً التي يطرحها المقال الأصلي أن التنوع ليس مجرد "وجود" أشخاص مختلفين، بل هو الاستفادة الواعية من اختلافهم في صنع القرار والتفكير الاستراتيجي.

المشكلة ليست في التشابه، بل في الاعتياد عليه.
فرق العمل التي تتفق بسرعة وتفكر بنفس الأسلوب قد تبدو "منسجمة"، لكنها عرضة للعطب وقت الأزمات.
أما الفرق المتنوعة، فصحيح أنها تناقش أكثر وتختلف أكثر، لكنها تصل إلى حلول أذكى وأعمق وأوسع أثرًا.

كيف يُترجم ذلك في بيئة العمل غير الربحي؟

  • عند تطوير حملة تبرع، قد يركز فريق التسويق المحلي على عاطفة "البر بالوالدين"، بينما تقترح زميلة من خلفية أخرى أن ترتكز الحملة على فكرة "المجتمع الراعي" لأنها أكثر جذبًا في ثقافتها. الجمع بين الفكرتين يفتح أبواب تواصل أوسع.

  • جمعية تنموية سعودية تعمل في الأحياء القديمة تطلب مشورة أحد المتدربين من خلفية فقيرة عاش ظروفًا مشابهة، فيقترح تغيير وقت تنفيذ الأنشطة ليكون مساءً بعد انتهاء الورديات، لا ظهرًا كما اعتاد الفريق الإداري.
    هذا التغيير البسيط ضاعف الحضور والمشاركة.

من زاوية محلية:

القطاع غير الربحي في السعودية يشهد اليوم دخول أجيال جديدة، وأدوار متنوعة، وجنسيات متعددة.
حين تضع في غرفة القرار:

  • موظفًا إداريًا من نجد.

  • ومصمم محتوى من الهند.

  • ومتطوعة من جنوب جدة.

  • ومحاسبة وافدة من السودان.

فلا تتوقع أن يخرج الجميع بنفس الفكرة، لكن تأكد أن النقاش إذا أُدير بوعي، سيخرج بأفكار لم تكن لتخطر لأحدهم بمفرده.

قاعدة ذهبية:

لا تطلب من الفريق المختلف أن "يتكيف مع طريقة تفكيرك"، بل اطلب من نفسك أن تستفيد من طريقة تفكيرهم.


3. احترم التفاصيل الصغيرة: فهي التي تُحدث الأثر الكبير

من الأخطاء الشائعة أن نربط "التنوع الثقافي" فقط بالمناسبات الكبرى أو الاختلافات الظاهرة، بينما يتجلّى عمقه الحقيقي في التفاصيل اليومية الدقيقة—التي قد تبدو ثانوية، لكنها تُحدِث الأثر الأعمق في بيئة العمل.

المقال الأصلي يشير بوضوح إلى أن حتى التفاعلات العادية—مثل المصافحة، أو التواصل البصري، أو المسافة الشخصية—تحمل حمولات ثقافية ضمنية تختلف جذريًا من بيئة لأخرى.

كيف يُترجم ذلك في المنظمات غير الربحية؟

  • موظف استقبال سعودي يمد يده تلقائيًا بالمصافحة لزميلة وافدة، فتبدو مترددة، مما يُشعره بالإحراج.
    ما لم يدركه هو أن ثقافتها لا تشجع المصافحة بين الجنسين.
    تجاهل هذه الإشارة الصامتة قد يولّد شعورًا بعدم الراحة يدوم طويلاً.

  • مديرة مشاريع تعتمد أسلوب المواجهة المباشرة والتعليقات السريعة، لكنها تلاحظ أن عضو الفريق القادم من بيئة أخرى لا يرد، ولا يشارك كثيرًا.
    بعد جلسة خاصة، تكتشف أن ثقافته تعتبر الاعتراض العلني على المدير تقليلًا من الاحترام.
    تغيّرت استراتيجيتها في التواصل، وتحسّن أداء الفريق.

تطبيق محلي واقعي:

في إحدى الجمعيات الصحية، كانت الاجتماعات تُعقد عند الثانية عشرة ظهرًا، بالتزامن مع صلاة الظهر.
الزملاء الملتزمون دينيًا كانوا يتأخرون أو ينسحبون.
لم يُلاحظ أحد ذلك إلا بعد فترة، حين سأل موظف جديد: "هل الوقت مرن للصلاة؟"
أُعيد ترتيب الجدول، وتحسّن الحضور والمشاركة دون أي تكلفة تنظيمية.

لماذا هذه التفاصيل مهمة؟

لأنها تُظهر الاحترام الصامت.
حين تنتبه لموعد صلاة، أو لغة جسد متحفّظة، أو لهجة خجولة—وتُراعيها دون أن تُحرج—فأنت لا تُظهر فقط ذكاءك الاجتماعي، بل تبني جسور ثقة تدوم أكثر من أي تدريب أو لائحة سلوك.

قاعدة مهنية:

    ما يبدو لك "تفصيلًا"، قد يكون بالنسبة لزميلك "كرامته".


4. احتفل بالاختلاف: أنشئ تقويمًا للمناسبات الثقافية

يطرح المقال الأصلي من Hult فكرة بسيطة في شكلها، لكنها عميقة التأثير في روح المؤسسة:

فكرة إنشاء تقويم داخلي يعكس تنوع الخلفيات الثقافية والدينية ليست نشاطًا جانبيًا، بل ممارسة رمزية ذات بعد نفسي عميق.
عندما يرى الموظف أن مؤسسته تعترف بمناسباته—ولو بإشارة بسيطة—فهو يشعر بأنه مرئي، ومقبول، ومحترم.

كيف يُترجم ذلك في القطاع غير الربحي؟

  • في جمعية تنموية سعودية يعمل فيها موظفون من باكستان والفلبين ومصر، أُعدّ تقويم سنوي يضم:

    • الأعياد الإسلامية (العيدين ويوم عاشوراء).

    • عيد الاستقلال الباكستاني.

    • رأس السنة الصينية.

    • اليوم الوطني السعودي.

    • اليوم العالمي للتطوع.

    في كل مناسبة، يتم إرسال تهنئة رمزية عبر البريد الداخلي، أو إحضار طبق تقليدي من أحد الزملاء، أو مشاركة قصة قصيرة.

النتيجة؟
تحوّلت بيئة العمل من مكان لإنجاز المهام، إلى مساحة يتبادل فيها الناس هوياتهم وذكرياتهم ومشاعرهم.

قوة هذه المبادرة في رمزيتها:

لا تحتاج لتكلفة مالية، ولا إلى حملات كبيرة.
يكفي أحيانًا أن تقول لزميلك في رسالة داخلية:
"عيدك سعيد، ونتمنى لك ولعائلتك يومًا جميلاً في هذه المناسبة."

هذه الجملة التي تُكتب في ثوانٍ، قد تُعيد تشكيل انطباع الزميل عن المؤسسة كلها.

في السياق المحلي:

في السعودية، حيث تتسارع وتيرة التنوع المهني، وتختلط الثقافات من خلفيات إقليمية ووطنية ودينية مختلفة، يصبح الاعتراف الرمزي بهذه المناسبات:

  • أداة لخلق بيئة عمل دافئة.

  • ورسالة غير مباشرة بأن الاختلاف ليس عيبًا يجب تحمّله، بل قيمة تستحق الاحتفاء.

قاعدة عملية:

كل مؤسسة تُتقن الاحتفال باختلاف موظفيها، تصبح بيئة يُحتفل بالعمل فيها.


5. كن قدوة: شارك، وابدأ، وألهم

في ختام المقال الأصلي، تبرز فكرة بالغة الأهمية:
أن بناء ثقافة التنوع لا يكون فقط بالسياسات والأنظمة، بل بـالمبادرات الفردية الصغيرة التي يقودها الأشخاص العاديون داخل المؤسسة.

بمعنى آخر: كن أنت نموذج التنوع الإيجابي في المؤسسة، دون أن تُكلَّف بذلك رسميًا.

كيف يُترجم ذلك في بيئة القطاع غير الربحي؟

  • أحد موظفي الدعم التقني في جمعية محلية أحضر معه كعك العيد الفلسطيني، ووزعه على زملائه مع قصة بسيطة عن طقوس أعياد قريته.
    بعد أيام، بدأ موظفون آخرون يشاركون حلوياتهم ومناسباتهم...
    فتح هذا الباب لمجموعة من التفاعلات التي رفعت الروح المعنوية، وعمّقت الترابط الإنساني داخل الفريق.

  • في مؤسسة تعليمية غير ربحية، بادرت إحدى الموظفات بتصميم لوحة حائطية صغيرة بعنوان "ثقافتي في بطاقة"، ودعت الزملاء لكتابة جمل قصيرة عن لهجاتهم، أطباقهم المفضلة، أو عادات طفولتهم.
    في أقل من أسبوع، تحوّلت اللوحة إلى مرآة للتنوع ودفتر للذكريات.

لماذا هذا مهم؟

لأن الناس لا يتغيّرون بالنظريات، بل بما يشاهدونه من سلوك أمامهم.
حين يرى الزملاء أن زميلًا بدأ بمشاركة عاداته دون خوف أو تردد، تتولد بيئة تشجّع البقية على الانفتاح أيضًا.

في السياق المحلي:

في ثقافة اعتادت لفترة طويلة على "النمط الواحد"، يصبح من يُظهر تنوعه بطريقة راقية ومحترمة نموذجًا تطبيقيًا يعيد تعريف مفهوم "الانسجام".
ليس المطلوب أن نتشابه، بل أن ننسجم دون أن نفقد اختلافاتنا.

قاعدة ختامية:

في بيئات العمل الحقيقية، القيم لا تُدرّس… بل تُمارَس.


التنوع ليس ترفًا… بل اختبار حقيقي لهوية المؤسسة

في عالم يتجه نحو المزيد من الانفتاح والتعقيد والتشابك الثقافي، لم يعد الحديث عن "التنوع" في بيئة العمل خيارًا للتفاخر أو التحسين التجميلي، بل ضرورة تشغيلية وقيمية في آنٍ واحد.
وبالنسبة للمنظمات غير الربحية، التي تُبنى على قيم الرحمة، والمساواة، وتمكين الإنسان، يصبح التنوع اختبارًا صامتًا لصدق تلك القيم داخل المؤسسة نفسها.

إن تحويل التنوع من حالة "تسامح" إلى "قيمة تشغيلية" يتطلب أكثر من لوائح وورش عمل، إنه يبدأ:

  • بإدراك الذات

  • ثم الاعتراف بالاختلاف

  • ثم الاحتفاء به بوصفه مصدرًا للثراء لا عبئًا تنظيميًا

وفي السياق السعودي، حيث يلتقي التنوع المحلي العميق (المناطقي، الاجتماعي، والمذهبي) مع تنوع إقليمي ودولي في سوق العمل، فإن بناء بيئة شاملة هو قرار وطني ومهني وأخلاقي في آنٍ واحد.

ففي النهاية، المنظمات التي تنجح في إدارة التنوع بذكاء واحترام، لا تجني فقط ثقة موظفيها، بل تبني لنفسها مكانة مجتمعية مستحقة، وتُحقق أثرًا أعظم، لأن رسالتها تبدأ من الداخل قبل أن تُعلن للخارج.


المصدر

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top