حضور المنظمات غير الربحية في الفضاء الرقمي ساحة معقّدة تتداخل فيها التقنية مع الثقة، والمنصّات مع الهويّات، والمتبرعين مع الخوارزميات.
ظهرت تحديات جديدة لم تكن مطروحة بهذا الوضوح من قبل أبرزها إنشاء صفحات تبرع غير مصرح بها عبر منصّات التمويل الجماعي، مستندة إلى بيانات عامة وشعارات وأوصاف تعود للمنظمات دون إذن.
أثارت منظمات غير ربحية عديدة موجة من القلق الأسبوع الماضي بعد اكتشافها أن إحدى منصّات التمويل الجماعي غير المرخّصة قامت بهدوء شديد بإنشاء أكثر من 1.4 مليون صفحة تبرّع منسوبة إليها، اعتمادًا على بيانات عامة وتقارير منشورة وشراكات تقنية مع جهات وسيطة.
وبحسب المنصّة، كانت الفكرة تهدف نظريًا إلى “تسهيل اكتشاف المنظمات غير الربحية وجمع التبرعات لها”، حتى لو لم تبادر تلك الجهات إلى إنشاء حملات تبرّع بنفسها. لكن النتيجة جاءت عكسية تمامًا: انتقادات لاذعة وقلق متصاعد. فقد فوجئت منظمات عديدة بأن صفحات كاملة قد صُمّمت باسمها دون إذن شعاراتها، ورسالتها، وروابط التبرّع وأن كل تبرع يمر عبر تلك الصفحات يُقتطع منه مقابل مالي يصل إلى 2.2% + 30 سنتًا بحجّة “معالجة الدفع” و”ضمان وصول المبلغ”، إضافة إلى حثّ المتبرعين على ترك “إكرامية اختيارية” بمتوسط 15% تذهب مباشرة إلى الشركة المشغّلة.
بالنسبة للمنظمات غير الربحية، لم تكن مشكلة “انتهاك الموافقة” وحدها الصدمة بل الخشية الأكبر من أن تكون المنصّة تستفيد ماليًا من اسمها وثقة جمهورها تحت شعار “تسهيل الوصول”. و هذا التحرّك فتح الباب أمام أسئلة حسّاسة حول الملكية الفكرية، وثقة المتبرعين، وأخلاقيات جمع التبرعات دون تصريح.
بولينا مايكوفسكي، الرئيس التنفيذي لمركز Penfield Children’s Center، لخّصت القلق بوضوح: “أي خطوة قد تُربك سمعة المنظمة أو علاقتها مع المتبرعين حتى لو بدت بسيطة تضع عبئًا ثقيلًا وغير ضروري عليها. الشفافية هنا ليست رفاهية بل ضمانة لثقة المتبرع وفهمه لمسار تبرّعه. من المؤسف رؤية رسوم مرتفعة في وقت تحتاج فيه القضايا الصغيرة إلى كل ريال يُجمع”.
المنظمات غير الربحية مدعوّة لحماية هويتها وثقة متبرّعيها
تقول آن جينغيريش، المديرة التنفيذية لرابطة المنظمات غير الربحية في بنسلفانيا، إن حتى لو كانت منصّات التمويل الجماعي غير المرخّصة “تنوي المساعدة” مع اقتطاع حصّتها طبعًا فهذا لا يبرّر ترك الصفحات قائمة.
وتضيف: “قد تكون النيّة تسهيل دعم القضايا الإنسانية، لكن إنشاء صفحات باسم المنظمات دون إذن يثير قضايا خطيرة: من انتهاك الملكية الفكرية، إلى معلومات غير دقيقة، وصولًا إلى ضرب قاعدة الثقة والشفافية.”
وترى أنّ من حق كل منظمة أن تقرر أين وكيف يُمثَّل اسمها، وأن عليها مراجعة تلك الصفحات وحذف غير المصرّح منها لحماية سلامة علامتها وثقة جمهورها.
المنصّة تعتذر وتُغيّر سياساتها
جاء الرد سريعًا وصاخبًا. خلال أيام، نشرت المنصّة اعتذارًا علنيًا، معترفة بأنها تجاوزت الحدود. وأعلنت عن تغييرات جذرية: الصفحات أصبحت اختيارية بالكامل (Opt-in)، والصفحات التي لم تُطالب بها المنظمات سيتم حذفها و إزالتها من محركات البحث ولن تظهر أي صفحة مستقبلًا دون موافقة صريحة من المنظمة نفسها.
كتبت المنصّة في اعتذارها: “ندرك تمامًا أن ما حدث سبّب ارتباكًا وقلقًا وأبعد الأنظار عن مهمّات المنظمات التي نهدف لدعمها. الثقة أساس علاقتنا بالقطَاع غير الربحي، ونحن ملتزمون بإعادة بنائها عبر تواصل أفضل وتعاون أعمق.” لكن هذا الاعتذار، رغم أهميته، كشف حقيقة أكبر: حتى المبادرات التقنية “حسنة النية” يمكن أن تصبح عبئًا حين تتجاهل مبدأ السيطرة والموافقة.
ديان يينتيل ، رئيسة المجلس الوطني للمنظمات غير الربحية، وصفت ما حدث بأنه “انتهاك للثقة”، لكنها أثنت على استجَابة المنصّة السريعة لتصحيح الخطأ. وكتبت: “هذه الحادثة تذكير بأن على المنظمات الاحتفاظ بحقّها في تقرير متى وكيف تتعامل مع شركائها. يجب احترام خبرتها والاستماع لها قبل اتخاذ أي خطوة تمسّ عملها.”
الدرس الأكبر: حماية العلاقة مع المتبرع
ورغم الاعتذار والتراجع، فإن كثيرين يرون أن القضية لم تُغلق بعد. فـ دونالد سامرز، مؤسّس Altruist Impact Accelerator، يرى أن ما حدث ليس خطأً عابرًا، بل جزء من نمط أكبر نمط تحاول فيه المنصّات التقنية أن تقف بين المنظمة غير الربحية و متبرعيها.
يقول دونالد بوضوح: “الفكرة كانت سيئة منذ البداية. أي جهة وسيطة تحشر نفسها بين المنظمة والمتبرع تُضعف العلاقة التي يقوم عليها العطاء. حين تسمح لمنصة أن “تملك” تجربة مُتبرعيك، فأنت تتخلى عن أهم أصولك وهذا جهل، لا استراتيجية.”
ويضيف أن النجاح الحقيقي في جمع التبرعات لا يُبنى على خدع تحسين الظهور ولا على الشراكات التي تلمع على الورق، بل على العلاقات الإنسانية المباشرة التي تربطك بمَن يدعمون رسالتك وهذا رأي يتفق معه كثيرون في القطاع.
اليوم، وفي وقت يشهد فيه القطاع غير الربحي تحدّيات قاسية تبرعات جماهيرية تتباطأ، وثقة تتآكل فإن ما حدث لم يكن مجرد هفوة تقنية بل جرس إنذار. تستطيع التقنية أن تُضخّم العطاء، نعم. لكنها لا تستطيع أن تحلّ محل الثقة، و لا الشفافية، ولا الموافقة الصريحة ولهذا، فالدّرس واضح لكل منظمة:
احمِ علامتك.
ففي النهاية، العلاقة الأقوى ليست تلك التي يصنعها خوارزم… بل تلك التي تُبنى من إنسان إلى إنسان.
ما الذي يجب على المنظمات غير الربحية فعله الآن؟
تكشف هذه القضية أن التحديات التي تواجه المنظمات غير الربحية لم تعد محصورة في جمع التبرعات أو إدارة البرامج، بل امتدّت إلى حماية حضورها الرقمي وصيانة علاقتها مع مُتبرعيها. فالثقة، التي تُعد رأس مال هذا القطاع، يمكن أن تتأثر بخطوة تقنية واحدة تتجاوز حدود الموافقة أو تغيب عنها الشفافية. ومن هنا، يصبح من الضروري أن تمتلك كل منظمة سياسات واضحة تضبط استخدام هويتها، وتراجع مواقع ظهورها، وتحدد بدقة قنوات التبرع التي تعبّر عنها فعلاً.
إن الحفاظ على العلاقة المباشرة مع المتبرع ليس خياراً تنظيمياً فحسب، بل ركيزة أساسية لاستدامة التأثير ووضوح الرسالة.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
