الاستثمار في الإنسان أولاً: كيف يعيد التدريب غير الربحي رسم خارطة سوق العمل في السعودية؟

ع ع ع

رغم تنامي المبادرات التعليمية في المملكة، لا تزال الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل حاضرة بقوة. في اليوم الأول من “ملتقى القطاع غير الربحي في التعليم والتدريب”، كان واضحًا أن هذه الفجوة لم تعد قضية قطاع تعليمي فحسب، بل قضية كفاءة اقتصادية وطنية.


من بين التجارب التي عُرضت، برز نموذج أكاديمية الحفر العربية السعودية بوصفه مثالًا مغايرًا للتدريب غير الربحي، حيث وصلت نسبة التوظيف إلى 100٪ بعد التخرج مباشرة. هذه ليست مجرد أرقام مشجعة، بل إشارات لتحوّل استراتيجي يُمكن أن يُعاد تكراره في قطاعات أخرى.


النجاح الاستثنائي لأكاديمية الحفر لم يأتِ من فراغ، بل تأسس على بنية نموذج ثلاثي الأبعاد:

  1. تصميم تدريبي تشاركي: المنهج لا يُعد داخل قاعات مغلقة، بل بالشراكة مع الشركات الموظِّفة، لضمان مواءمته الفورية مع الواقع المهني.

  2. تجربة تعلم واقعية: من الأجهزة اللوحية إلى المحاكيات ثم التطبيق الميداني، تُبنى الكفاءة خطوة بخطوة دون تعريض المتدرب للخطر أو الفشل الفوري.

  3. تمويل مشروط بالتوظيف: يتحمّل صندوق تنمية الموارد البشرية 75٪ من تكلفة التدريب، بشرط توظيف الخريج، مما يُلزم جميع الأطراف بالنتائج لا بالمخرجات الشكلية.

هذه البنية جعلت التدريب غير الربحي لا يدور حول “منحة تعليمية”، بل حول استثمار متكامل في رأس المال البشري، تُقاس عوائده بوظائف حقيقية وإنتاجية قابلة للقياس.


ما جرى في أكاديمية الحفر ليس حكرًا على قطاع الطاقة. يمكن أن يُعاد إنتاج التجربة في قطاعات عدة:

القطاع قابليته للتكرار مبرر التوسع
الطاقة المتجددة عالية الحاجة إلى فنيين لصيانة الألواح والمزارع
الخدمات الصحية المنزلية متوسطة تصاعد الطلب على الرعاية خارج المنشآت
الخدمات اللوجستية عالية توسّع التجارة الإلكترونية والأتمتة
الصناعات الدقيقة عالية نقص في المهارات الفنية القابلة للتوظيف



لكن تكرار النجاح مشروط بعدة عوامل تمكينية:

  • وجود جهة تدريب مرنة ومستعدة للشراكة المفتوحة.

  • تمويل غير ربحي يقبل الربط بالأثر وليس بالعدد.

  • بيئة تنظيمية تحتفي بالتجريب وتقلل بيروقراطية الترخيص.

  • أدوات قياس رقمية تراقب رحلة المتدرّب من الالتحاق إلى التوظيف.


    بناءً على ما سبق، يمكن استخلاص عدد من التوصيات التطبيقية لمختلف الفاعلين في قطاع التعليم والتوظيف:

    للمؤسسات المانحة:

    • اعتمدوا نموذج التمويل المشروط بالنتائج (Outcome-Based Grants)، حيث تُربط قيمة الدعم بنسبة التوظيف أو الراتب المحقق.

    للجهات المشغلة:

    • طوّروا مناهج رقمية تفاعلية تحاكي بيئة العمل الفعلية، بدلًا من الاكتفاء بمناهج نظرية لا تمتّ للواقع بصلة.

    للسياسات الحكومية:

    • أطلقوا رخصة “مزوّد تدريب غير ربحي معتمد” ضمن مسار خاص يُسرّع الاعتماد ويوفّر حوافز للاستثمار الاجتماعي.

    • أنشئوا منصة موحدة لربط المتدربين ببيانات التأمينات الاجتماعية لقياس أثر التدريب بدقة.

    للقطاع الخاص:

    • لا تنظروا للتدريب غير الربحي كجهد خيري، بل كبوابة للعثور على موظفين جاهزين، مؤهلين، ومندمجين مسبقًا في ثقافة العمل المطلوبة.


    ختامًا

    حين خرجت من جلسة "بناء القدرات البشرية" في الملتقى، لم أخرج بورقة أو بطاقة تعريف فقط، بل خرجت بقناعة: الاستثمار في الإنسان، حين يُدار بذكاء وشراكة ومساءلة، يتحول من شعار مثالي إلى أداة لإعادة هيكلة السوق.
    إذا كان لدينا نموذج واحد أثبت ذلك، فلنبحث جديًا عن مَن ينقله إلى قطاعاتنا الأخرى.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top