«خبر وسق ليس فقط إطلاق منصة، في الواقع هو انعكاس لعمل فريق آمن بالفكرة…»
في تلك اللحظة، كان واضحاً أن ما جرى تحت الأضواء في قاعة الإطلاق، لم يبق حدثاً بروتوكولياً؛ بل تحوّل إلى حكاية يتداولها الفاعلون في القطاع غير الربحي بوصفها علامة فارقة في علاقة الجمعيات بأبسط حقوق العاملين فيها: التأمين الصحي.
ما الذي حدث بالضبط؟
دُشِّنت منصة «وسق» للتأمين الصحي للجمعيات الأهلية بحضور معالي المهندس أحمد بن سليمان الراجحي، وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ورئيس مجلس إدارة المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، وبمبادرة من مجلس الجمعيات الأهلية وبالشراكة مع المركز.
منصة «وسق» ليست مجرد موقع تسجيل؛ بل نموذج عمل يجمع قوة التفاوض الجماعي لآلاف الجمعيات الأهلية مع شركات التأمين، ليحوّل احتياجاً متكرراً ومكلفاً إلى حزمة حلول تأمينية ذكية:
-
مزايا أوسع للعاملين في الجمعيات.
-
أسعار أقل بفضل القوة التفاوضية الموحدة.
-
إطار مؤسسي منضبط تديره جهة مظلّية تمثل القطاع.
بهذا التشكيل، يلتقي في «وسق» القطاع غير الربحي (الجمعيات)، والقطاع الحكومي (المركز الوطني والوزارة)، والقطاع الخاص (شركات التأمين) على هدف واحد: تمكين العاملين في الجمعيات عبر حماية صحية مستقرة.
من حلم قديم إلى منتج ناضج
من يقرأ تعليق مصعب آل راكان يدرك أن «وسق» لم يُولد في ليلة توقيع:
-
فكرة التأمين للعاملين في الجمعيات طُرحت لسنوات في الملتقيات والورش.
-
في عام 2023 نُفّذ نموذج أولي «MVP» بموارد محدودة لاختبار منظومة التأمين وفهم تفاصيلها التشغيلية.
-
لاحقاً، دخل المنتج في دورة تصميم وتطوير استمرت أكثر من 9 أشهر، تلتها 3 أشهر في بيئة تجريبية للتأكد من جاهزيته للإطلاق.
هذا المسار يشبه ما تفضّله المدارس المعرفية في إدارة الابتكار:
-
فهم عميق للسوق والتحديات.
-
تجربة أولية محدودة لاكتشاف المخاطر الحقيقية.
-
توثيق الدروس المستفادة وتحويلها إلى نموذج عمل ناضج.
«وسق» هو حصيلة هذا المسار، وليس فكرة وُلدت مع صورة تدشين جميلة.
ثقافة مؤسسية تصنع منتجاً مختلفاً
في رسالته المطولة، يكشف مصعب آل راكان جانباً مهمّاً من القصة: كيف صُنِع المنتج داخل مجلس الجمعيات الأهلية.
يصف مصعب ثقافة المجلس بأنها مزيج نادر من أربع ثقافات مؤسسية:
-
ثقافة العائلة: القرب، والدعم، والشعور بالمصير المشترك.
-
ثقافة الهرم: وضوح الأدوار والمسؤوليات والاحتكام للأنظمة.
-
ثقافة الإبداع: مساحة للتجربة وعدم الخوف من الفشل.
-
ثقافة السوق: تركيز على النتائج، والمنافسة، وسرعة الاستجابة.
وتتحرك هذه الثقافات – كما يذكر – عبر ست قيم دافعة، أربعة منها سلوكية مباشرة: المرونة، والالتزام، والأمان، والتعلم، وجوهرها قيمتا الأمانة والمسؤولية.
هذا الوصف يبدو – بلغة هارفارد – أقرب إلى «معادلة ثقافية» صُممت لتنتج مبادرات نوعية قادرة على اختراق المساحات الصعبة في القطاع. لذلك لم يكن غريباً أن يسبق «وسق» منتجات مثل «جدارة» و«ديم» و«مقياس» و«شطر»، وأن تلحقه قريباً مبادرات جديدة مثل «وصل» و«منجزات» و«مؤشرات».
أبطال في الظل… كيف تحرّك فريق المنتج؟
الرسائل المتبادلة تكشف خيطاً إنسانياً نادراً في الحديث عن المنتجات المؤسسية؛ فالتقدير لا يذهب للمنصة بوصفها «نظاماً» فحسب، بل للفريق الذي حملها:
-
مشعل آل زيدان يظهر بوصفه «قائد المنتج» الذي تولّى قيادة التفاصيل التنفيذية.
-
مشاري المزروع يوصف بأنه «قائد المنتجات الاستراتيجية» الذي رافق عملية التصميم والتحالفات.
-
فريق «الكوماندوز» – كما سماه مصعب – تحرك في المساحة الأصعب: التشغيل اليومي، والمواءمة بين متطلبات الجمعيات وشركات التأمين والجهات التنظيمية.
-
من جهة الشريك الحكومي، يبرز اسم المهندس أحمد التويجري وفريق تطوير الأعمال في المركز الوطني بوصفهم شركاء فاعلين في تمكين المنتج، لا مجرّد جهة مصادِقة.
بهذه اللغة، يصبح التقرير أقرب إلى دراسة حالة Case Study عن «كيف يُدار منتج مشترك بين القطاعات الثلاثة» أكثر من كونه خبراً عن توقيع اتفاقية.
ردود الفعل… مؤشرات ما بعد الإطلاق
التفاعل في مجموعة «شباب لتنمية القطاع» كان عينة صغيرة لكنها كاشفة:
-
«خدمة مميزة»
-
«الله يجعل في هالمنتجات البركة ونساند فيها جمعياتنا»
-
«منتج جاء في وقته»
-
«منتج عظيم يلبي احتياجاً كبيراً»
هذه العبارات ليست مجاملات عابرة؛ بل تعكس إدراكاً جمعياً بأن التأمين الصحي لموظفي الجمعيات لم يعد رفاهية، بل شرطاً من شروط استدامة الموارد البشرية وجذب الكفاءات.
محمد سحاري التقط هذا المعنى حين كتب أن «خبر وسق ليس فقط إطلاق منصة، بل انعكاس لعمل فريق آمن بالفكرة… وتجاوز سردية تعقيد الأفكار الجديدة ومقاومة النمطيين»، مؤكداً أن القيمة الحقيقية في قدرة المنتج على «جمع القطاعات الثلاثة على هدف واحد».
ريان العارف بدوره ربط بين الإطلاق وما يراه عن قرب من جهود المجلس، معتبراً أن «وسق» امتداد لنقلة نوعية حقيقية قادها مصعب آل راكان خلال فترة عمله، وأن بصمته ستبقى حاضرة حتى بعد انتقاله لميدان جديد.
هذه الردود يمكن قراءتها – بلغة بلومبيرغ – بوصفها «مؤشرات ثقة مبكرة» Early Signals تؤثر في تبنّي المنتج، وفي استعداد الجمعيات لتحويله إلى خيار افتراضي لموظفيها، لا مجرد عرض إضافي.
ما الذي يعنيه «وسق» للاقتصاد غير الربحي؟
على مستوى الاقتصاد الكلي للقطاع غير الربحي في المملكة، يمكن قراءة «وسق» في ثلاثة أبعاد:
-
عدالة الامتيازات:يساهم المنتج في تقليص الفجوة بين امتيازات العاملين في الجمعيات ونظرائهم في القطاعات الأخرى، عبر توفير مظلة تأمينية أكثر كفاءة وأقل كلفة. هذا يعزز قدرة الجمعيات على جذب الكفاءات والاحتفاظ بها.
-
قوة التفاوض الجماعي:بدلاً من أن تتعامل كل جمعية منفردة مع شركات التأمين، يمنحها «وسق» منصة تفاوض موحّدة، ما يحسّن الأسعار والشروط ويقلل تكاليف التعاقد والإدارة.
-
بناء سوق جديد:المنصة لا تخدم الجمعيات فقط؛ بل تفتح أمام شركات التأمين سوقاً منظماً للعاملين في القطاع غير الربحي، ضمن إطار تنظيمي واضح وبشريك مظلي يعرف احتياجات هذا السوق وخصوصيته.
بهذا المعنى، «وسق» ليس منتج تأمين صحي فحسب، بل جزء من بنية تحتية اقتصادية جديدة للقطاع غير الربحي، تنسجم مع مستهدفات رؤية 2030 في تعزيز مساهمة القطاع في الناتج المحلي وخلق فرص عمل نوعية.
حين يتحوّل التأمين إلى قصة قطاع كامل
تقرير كهذا كان يمكن أن ينتهي عند جملة بروتوكولية عن «تدشين منصة جديدة»، لكن ما جرى مع «وسق» يكسر هذا النمط:
-
وزير يشرف الإطلاق بوصفه رئيساً لمجلس إدارة المركز الوطني.
-
مجلس جمعيات أهلية يراكم تجربة في بناء منتجات نوعية متتابعة.
-
فريق شاب يعمل بمنطق «الكوماندوز» لإنجاز مهمة معقّدة في بيئة تنظيمية جديدة.
-
مجتمع مهني يتفاعل في مجموعات الواتساب، لا بالخبر الرسمي فقط، بل بتحليل التجربة وتقدير أبطالها.
من هذه الزاوية، تبدو «وسق» أقرب إلى فصل جديد في قصة تحوّل القطاع غير الربحي في المملكة من «قطاع خير» إلى «منظومة عمل» تمتلك أدواتها ومنتجاتها وسوقها، وتخوض مفاوضاتها بثقة.
وربما بعد سنوات، عندما تصبح تغطية التأمين الصحي للعاملين في الجمعيات من البديهيات، سنعود إلى صورة التدشين هذه، وإلى رسائل ذلك الصباح في مجموعة صغيرة على واتساب، لنقول: هنا تقريباً بدأنا نرى القطاع كما ينبغي أن يكون.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
