المساءلة الزائفة في المنح: كيف تقتل المتطلبات البيروقراطية الوقت والأثر؟

ع ع ع

في خضم النقاشات المتزايدة حول «المساءلة» في العمل الخيري، يطرح هذا المقال سؤالًا جوهريًا حول أثر متطلبات المانحين على فاعلية المنظمات غير الربحية وقدرتها على تحقيق العدالة والإنصاف. 

يستعرض النص نقدًا عميقًا للفلسفة الأبوية والاشتراطات المرهقة التي تُقدَّم بوصفها أدوات للمحاسبة، بينما تسهم عمليًا في تعطيل الأثر وإهدار الموارد. يستند هذا العرض إلى مقال أصيل للكاتب Vu Le منشور على مدونة Nonprofit AF بعنوان: “Funders: Stop Viewing Your Tedious and Paternalistic Requirements as ‘Nonprofit Accountability’”، مع إعادة صياغته وتكييفه ليناسب احتياجات العاملين في القطاع غير الربحي، مع حفظ الحقوق الأدبية كاملة للكاتب والمصدر الأصلي.

في الأسبوع الماضي كنت في تورونتو أُدير حوارًا حول «المنح العادلة» مع مجموعة من الزملاء اللامعين، من بينهم عدد من المانحين وقادة الاستثمار الاجتماعي، وخلال صعود النزعات السلطوية يصبح من الحيوي أن يدرك المانحون ما هو على المحك وأن يتصرفوا بناءً على ذلك الفهم.

لكن المسألة لا تتعلق بما يمنحونه فقط، بل أيضًا بكيفية المنح، فهذا هو ما يجعلهم أكثر فاعلية؛ عرضتُ عليهم هذا الجدول المعروف باسم «طيف المنح العادلة – Equitable Grantmaking Continuum»، وهو متاح للجميع هنا، ويمكن لأي شخص طباعته والنظر في موضع مؤسسته على هذا الطيف، وإذا كنت قائدًا في منظمة غير ربحية أو مستشارًا فيمكنك أيضًا إرساله إلى المانحين، وربما إرفاقه – على سبيل المزاح السوداوي – برأس لعبة وحيد قرن محشوة مقطوعة على طريقة فيلم العرّاب، خاصة مع الحالات الفجّة جدًا.

الحوار الذي تلا ذلك كان حيًّا وثريًا، غير أن سؤالًا طرحه أحد الزملاء بقي عالقًا في ذهني، وسأعيد صياغته بالمعنى: «عذرًا، لكن ماذا عن المساءلة؟ أعني يمكننا جميعًا أن نتحرك نحو أن نصبح مانحين من المستوى الثالث في هذا الطيف، فنقدّم منح تشغيل عامة واستثمارات لمدة عشرين سنة وما إلى ذلك، لكننا بحاجة إلى الحديث عن النتائج والمساءلة، أليس كذلك؟»

هذا سؤال نسمعه طوال الوقت، وأنا أعلم أن الزملاء الذين يطرحونه يقصدون خيرًا، لكنّه في الحقيقة واحد من أكثر الأسئلة إزعاجًا على الإطلاق؛ وفي كل مرة أسمعه أضطر أن أسترجع أغنية تعلّمها أطفالي من برنامج الأطفال «دانيال تايغر Daniel Tiger» لأهدّئ نفسي: «حين تشعر بالغضب حتى تريد أن تزأر، خذ نفسًا عميقًا، وعدّ إلى أربعة».


وإليك لماذا يُعدّ هذا السؤال مزعجًا إلى هذه الدرجة…

إنه متعالٍ وأبويّ في جوهره؛ فالفكرة الكامنة خلف هذا السؤال هي أنه لو لم تُجبَر المنظمات غير الربحية من قِبل المانحين والمتبرعين على كتابة مقترحات تفصيلية، وميزانيات دقيقة، وتقارير دورية منتظمة، ولو مُنحت تمويلًا غير مقيّد، فإن أفعالها هي الأخرى ستصبح غير مقيّدة، وستتصرّف كأطفال متروكين في الغابة بلا ضوابط ولا أهداف، وتنزلق الأمور إلى فوضى وجنون، وكأن المانحين هم وحدهم الراشدون في الغرفة، وعليهم أن “يراقبوا” هذه المنظمات حتى لا تنحرف.

وهو سؤال ينبني أيضًا على جهل حقيقي بكيف تعمل المنظمات غير الربحية؛ فمعظم هذه المنظمات والحركات لديها نتائج وأهداف تعمل عليها، ومكتوبة بوضوح في كل مكان، بما في ذلك مقترحات المنح نفسها، كما أن هياكل المساءلة موجودة أصلًا في عملها اليومي من خلال آليات مثل التقارير السنوية، والإفصاحات الرسمية، والنماذج الضريبية أو الرقابية التي تذكر فيها ما تحقّق من أهداف ونتائج، وكيف تم إنفاق الموارد خلال العام.


وفوق ذلك كله، يغذّي هذا المنطق عقلية فردانية، استهلاكية الطابع داخل العمل الخيري؛ إذ تمّ تدريب كثير من الممولين والمتبرعين على تبنّي ما يمكن تسميته «تجزئة» أو «تجزئة تجزئة» القطاع، حيث يتعاملون مع العطاء كما لو كانوا يشترون منتجًا محددًا من رفّ في متجر، ويتوقعون “شراء” نتائج بعينها تتوافق مع أولوياتهم الشخصية، ولهذا لا يرضى كثير من المانحين بالتقارير السنوية الشاملة التي تسرد كل ما حققته المنظمة من نتائج، ويصرّون بدلًا من ذلك على تقارير خاصة ومتفردة لكل منحة، يشرح فيها بالتفصيل “ماذا اشترى” منحهم بالضبط.


إنه يبرمج المنظمات غير الربحية على التفكير الصغير وعلى التحرك بخطوات متدرّجة فقط؛ فـ«المساءلة» بالصيغة التي يتصورها كثير من المانحين اليوم لا تتعلق بمدى فاعلية المنظمة في تحقيق رسالتها ورؤيتها ودفع عجلة العدالة والإنصاف، بل بمدى قدرتها على التكيّف مع الأهواء المتقلبة والمتطلبات المتغيرة لمجموعة من الممولين والمتبرعين، ومع مرور الوقت يتعلم قادة المنظمات أن يركّزوا على النتائج القصيرة المدى، سهلة القياس، سهلة الشرح في التقارير، تلك التي تُرضي هذه الأهواء والمتطلبات، ويضحّون في المقابل برؤى أكبر وأهداف أكثر طموحًا.


كل ذلك مدمّر إلى حد بعيد، ويساعد على تفسير لماذا تتراجع المنظمات والحركات التقدمية أمام نظيراتها المحافظة منذ عقود؛ إذ إن الافتراض الأبوي المتعالِي بأن المنظمات غير الربحية غير جديرة بالثقة بطبيعتها، وأنها تحتاج إلى مانحين يبقونها «خاضعة للمساءلة»، كان افتراضًا سامًّا عطّل قادة المنظمات والحركات التقدمية عن أداء أدوارهم كما ينبغي.

غالبًا ما أستخدم تشبيه قرية تشتعل فيها النيران، والمنظمات غير الربحية في هذا التشبيه أشبه برجال الإطفاء الذين يحاولون إخماد الحريق، بينما يوفّر الممولون والمتبرعون الأموال اللازمة لشراء الماء والخراطيم وسيارات الإطفاء، ودفع رواتب رجال الإطفاء وغير ذلك من المستلزمات.


إلا أن بعض الممولين لا يريدون سوى دفع ثمن الماء وحده، رافضين تمويل الخرطوم لأنه – في نظرهم – يقع تحت بند «المصاريف الإدارية»، وبعضهم يشترط على رجال الإطفاء أن يكتبوا طلبات تمويل مرهِقة، ثم ينتظرون من ستة إلى اثني عشر شهرًا قبل أن يقدّموا لهم المال اللازم لمواجهة الحرائق، ثم يطلبون منهم تقارير تفصيلية عن كيفية إنفاق تلك الأموال، ولكن وفق نماذجهم هم، وباستخدام دليل الحسابات الخاص بهم، وكثير منهم لا يقدّم سوى تمويل قصير الأمد لإنقاذ المنازل لعام واحد، وربما لعامين فقط، فتجد رجال الإطفاء في سباق دائم للبحث عن تمويل جديد، ما يعني أن النيران لا تُخمد أبدًا بل تستمر في الانتشار.


وعندما يُسألون: لماذا تُجبرون رجال الإطفاء على كل هذه الإجراءات؟ يكون جواب كثير من المانحين والمتبرعين: «نحن فقط نريد أن نتأكد من أن الجميع خاضع للمساءلة ويحقق النتائج». والحقيقة أنهم لا يحققون بذلك مساءلة حقيقية، بل يهدرون وقت الجميع، بما في ذلك وقتهم هم أنفسهم، ويفسحون المجال أمام حرائق الأسئلة كي تستمر في الانتشار.


في هذه المرحلة التي أصبح فيها كل شيء على المحك، نحن بحاجة إلى أن يقدّم المتبرعون تمويلًا تشغيليًا عامًا لعدة سنوات Multi-Year General Operating Dollars – MYGOD، وأن يمنحوا بوتيرة أسرع، وأن يزيدوا حجم ما يقدّمونه، وأن يزيلوا العوائق التي يفرضونها على المنظمات غير الربحية، باختصار: أن يفعلوا مع الجهات التي يدعمونها ما ظلّ المانحون المحافظون يفعلونه منذ عقود، وأن يتجاوزوا تلك الفلسفات والافتراضات الأبوية المتعالية، ويتصرّفوا كشركاء حقيقيين.

والمفارقة في تركيز المانحين ذوي التوجّه التقدمي المفرِط على فكرة «المساءلة» هي أن هذا التركيز نفسه يقلّل من المساءلة، لأنه يبدّد الوقت والطاقة والموارد بعيدًا عمّا هو جوهري، وهو العمل المشترك على معالجة القضايا البنيوية العميقة المتجذّرة؛ فلو أن العوائق التي تعترض طريق رجال الإطفاء كانت أقل، لكانوا أكثر قدرة على إخماد الحرائق، وبالمثل، لو خفّفت الأعباء والقيود المفروضة على المنظمات غير الربحية، لزادت احتمالات وفائها بالنتائج المنشودة، ولكانت أكثر قدرة على أن تكون خاضعة للمساءلة أمام المجتمعات التي تخدمها، وأمام الرؤية المشتركة.


كما يقول دانيال تايغر في إحدى الأغاني الموجّهة للأطفال: حمل الأشياء الثقيلة يكون صعبًا عندما تحاول أن تفعل ذلك وحدك، لكنك تصبح أقوى بكثير عندما يكون أصدقاؤك إلى جوارك : والمنظمات غير الربحية اليوم تتحمّل أعباء ثقيلة بالفعل، فكونوا أنتم ذلك الصديق.

في النهاية، يذكّرنا هذا النقاش بأن بناء علاقة صحية بين المانحين والمنظمات غير الربحية يبدأ من مراجعة عميقة لفلسفة «المساءلة» ذاتها؛ فالمُساءلة الحقيقية لا تُختزل في النماذج والجداول والتقارير المتكررة، بل تُقاس بقدرة المنظومة كاملة على إزالة العوائق أمام العمل الميداني، وتمكين القيادات من مواجهة بعض العقبات بمرونة وسرعة وكفاءة أعلى. وكلما تحوّل المانح إلى شريك موثوق يقدّم منحًا أطول أمدًا وأقل تعقيدًا، زادت فرص المنظمات في تحقيق أثر أوسع، وممارسة مساءلة جدّية أمام المجتمعات التي تخدمها قبل أي طرف آخر.

ويجدر التنبيه إلى أن هذا المقال مترجم ومبنيّ بتصرّف عن نص أصيل للكاتب Vu Le منشور على مدونة Nonprofit AF، مع تكييف المحتوى ليناسَب احتياجات العاملين في القطاع غير الربحي، مع الإقرار بأن الترجمة ليست حصرية، وحفظ الحقوق الأدبية كاملة للكاتب والمصدر الأصلي.

 


  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top