لم يعد التطوع مجرّد عمل إنساني تقليدي أو نشاط موسمي تُمارسه فئة محددة من الناس. نحن أمام تحوّل جوهري في فلسفة المشاركة المجتمعية، حيث تتقاطع التقنية مع القيم، ويتحوّل العمل التطوعي من مبادرة وقتية إلى منظومة متكاملة من المواطنة الفاعلة والمسؤولية المشتركة.
هذا المقال المترجم بتصرّف عن منصة Activate Good، يفتح نافذة جديدة على مستقبل العمل التطوعي، كاشفًا عن التغيّر العميق في طبيعة المتطوعين، ودوافعهم، وطرق انخراطهم.
كيف أصبحت الأجيال الجديدة ترى التطوع؟
وما الذي يدفع الأفراد في بيئة مزدحمة بالتحديات نحو العطاء؟
من يتطوّع اليوم؟ ولماذا يهمّ ذلك المنظمات غير الربحية؟
في واقع يتسارع فيه كل شيء، يظلّ التطوّع أحد أكثر مظاهر الإنسانية ثباتًا وتجدّدًا في آنٍ واحد، و خلف كل مبادرة ناجحة، هناك متطوعون يمنحون وقتهم وجهدهم دون مقابل، بدافع الإيمان العميق بقدرتهم على إحداث فرق. ومع تغيّر طبيعة العمل والاتصال الرقمي، لم يعد التطوّع مجرّد نشاط خيري، بل أصبح وسيلة للتعبير عن الذات، وتطوير المهارات، وبناء الانتماء إلى قضايا أكبر من الفرد ذاته.
فهم من يتطوع ولماذا يتطوع بات اليوم مفتاحًا استراتيجيًا لأي منظمة تسعى لتحقيق أثر حقيقي ومستدام.
تُظهر البيانات الحديثة حول العمل التطوعي ملامح مشهدٍ جديد كليًا: من يشارك، وكيف يتفاعل، ولماذا يشكّل هذا التحوّل مستقبل المشاركة المجتمعية في القطاع غير الربحي.
التطوع يتغيّر بوتيرة غير مسبوقة، فبينما يسجّل طلاب الجامعات ساعاتهم التطوعية عبر المنصات الرقمية، يعود المتقاعدون إلى الميدان بخبراتهم لتلبية احتياجات المجتمع وجهًا لوجه. المشهد في عامنا هذا مختلف عن أي وقت مضى، لا في الأعداد فحسب، بل في نوعية المشاركة ودوافعها أيضًا.
هذا التحليل المتعمق يقدم قراءة شاملة لاتجاهات التطوع الحديثة، كاشفًا مَن هم المتطوعون الجدد، وما الذي يدفعهم للانضمام، وكيف يمكن لهذه التحولات أن تعيد صياغة علاقة المنظمات غير الربحية بالمجتمع، وتفتح آفاقًا أوسع لبناء مستقبل أكثر تماسكًا وإنسانية.
تشير أحدث البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الأمريكي ووكالة "أميريكوربس" إلى أن روح العطاء لا تزال نابضة بقوة داخل المجتمع، إذ يشارك عشرات الملايين سنويًا في أنشطة تطوعية رسمية عبر المؤسسات والمنظمات غير الربحية، مثل بنوك الطعام والجمعيات الخدمية.
هذا الحضور الواسع للمتطوعين يؤكد أن التطوع لم يعد نشاطًا هامشيًا، بل ركيزة أساسية في بنية المجتمع المدني الحديث، ومؤشرًا على ارتفاع الوعي بأهمية المشاركة المجتمعية المنظّمة في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
هذا النمو في معدلات التطوع لا يُعدّ مجرد عودة إلى "الوضع الطبيعي"، بل هو إشارة واضحة إلى تعطّش الناس لإعادة الاتصال بالمجتمع وردّ الجميل له. المتطوعون حاضِرون ومستعدّون، لكن السؤال الحقيقي هو: هل نوفر لهم المسارات السهلة والمحفّزة للمشاركة؟
وفي الوقت ذاته، يتسع نطاق "المساعدة غير الرسمية" في الأحياء والمجتمعات، إذ بات الأفراد يقدمون الدعم لجيرانهم وأصدقائهم بطرق بسيطة ولكنها عميقة الأثر : كقضاء الحوائج، أو إقراض الأدوات، أو رعاية من يحتاج المساندة.
هذا الاتجاه يكشف أن جوهر العمل التطوعي لا يقتصر على الانضمام إلى منظمة أو برنامج، بل يمتد إلى ثقافة العطاء اليومية التي تصنع التماسك الاجتماعي وتبني مجتمعًا أكثر تعاطفًا وتعاونًا.
من هم الـ 75.7 مليون متطوع الذين يشكّلون العمود الفقري لحركة التطوع الحديثة؟ تشير بيانات عام 2023 الصادرة عن مكتب الإحصاء الأمريكي ووكالة "أميريكوربس" إلى أن التطوع الرسمي يشهد انتعاشًا ملحوظًا، بينما يواصل التطوع غير الرسمي نموّه بوتيرة ثابتة.
التحول اللافت بين عامي 2021 و2023 كان في الفئات التي شهدت أعلى نسب زيادة في التطوع الرسمي، وتشمل:
- جيل الألفية (من 27 إلى 42 عامًا)
- الأفراد ذوي الدخل المنخفض
- من لم يكملوا تعليمهم الثانوي
كما تكشف الإحصاءات أن جيل "إكس" يتصدر المشهد في التطوع الرسمي، بينما يهيمن جيل "الطفرة السكانية" على أنشطة الدعم غير الرسمي.
و هذه الأرقام تعكس تنوعًا متزايدًا في الخلفيات والأعمار والدوافع، وتفتح أمام المنظمات غير الربحية فرصة فريدة لتصميم تجارب تطوعية أكثر شمولًا ومرونة، تستوعب طاقات الجميع وتستثمرها في خدمة المجتمع.
ما الذي يدفع المتطوعين اليوم؟
لم يعد الدافع الأساسي لدى المتطوعين المعاصرين هو الارتباط طويل الأمد بالمؤسسة، بل الرغبة في إحداث أثر ملموس بشروطهم الخاصة، من خلال توظيف وقتهم ومهاراتهم في قضايا قريبة من وجدانهم.
تشير الاتجاهات الحديثة إلى أن دوافع التطوع اليوم تتمحور حول:
- الرغبة في إعادة الارتباط بالمجتمع بعد سنوات من العزلة الاجتماعية.
- المرونة في المشاركة ضمن جداول مزدحمة بالحياة والعمل.
- السعي لتأثير حقيقي في قضايا يؤمن بها الأفراد بعمق.
وقد أظهرت بيانات بحثية أن المتطوعين يفضلون الأدوار قصيرة المدى والمبنية على المشاريع أكثر من الالتزامات الطويلة، وهو ما يُعرف بالتطوع المرحلي أو "Episodic Volunteering"، والذي يمتاز بأنه:
- لا يتطلب وقتًا كبيرًا مسبقًا،
- يعتمد غالبًا على المهارات المتخصصة،
- يجذب من يرغب بالمساهمة عند توفر الوقت والقدرة.
هذا التحول تعززه المنصات الرقمية التي أصبحت حلقة وصل بين المتطوعين والمشاريع القصيرة عالية الأثر، حيث شهدت نموًا غير مسبوق في المشاركات التطوعية خلال السنوات الأخيرة. من تنظيف حديقة في نهاية الأسبوع إلى تصميم حملة إعلامية لمرة واحدة، يختار المتطوعون اليوم المبادرات التي تجمع بين المرونة، والجدوى، والمعنى الحقيقي للعطاء.
كيف يجد المتطوعون فرصهم اليوم؟
لم تعد طرق التطوع اليوم تقليدية كما كانت، بل أصبحت متعددة القنوات وأكثر اتصالًا بالتقنية، حيث تشير تقرير اتجاهات الاتصال في المنظمات غير الربحية إلى أن المتطوعين اليوم يعتمدون على مزيج من الوسائل الرقمية والتفاعلية للانضمام إلى المبادرات.
من أبرز القنوات الفاعلة في جذب المتطوعين:
- البريد الإلكتروني ما يزال الوسيلة الأكثر تأثيرًا، إذ ترى أكثر من 80% من المنظمات أنه وسيلة فعالة للتجنيد والاستقطاب.
- الفعاليات الميدانية ومواقع المنظمات الإلكترونية ما تزال تحافظ على دورها الحيوي في بناء العلاقات المباشرة.
- منصات التواصل الاجتماعي تشهد نموًا متسارعًا، خصوصًا على إنستغرام ولينكدإن وفيسبوك التي أصبحت مساحات نابضة بالتفاعل والمبادرات.
ولا يقتصر الأمر على المشاركة فقط، بل يمتد إلى التبرع والدعم المالي؛ إذ تؤكد البيانات أن المتبرعين عبر الإنترنت يتأثرون أكثر بالبريد الإلكتروني ومنصات التواصل، وأن شريحة كبيرة منهم تكرّر التبرع من خلال القنوات ذاتها، بما في ذلك رموز الـQR في الإعلانات والملصقات.
لماذا تهم اتجاهات التطوع الحديثة المنظمات غير الربحية؟
المتطوعون ليسوا مجرد مساهمين مؤقتين، بل غالبًا ما يتحولون إلى أوفى المناصرين والداعمين الماليين وأعضاء المجالس القيادية في المنظمات. لذلك، فإن فهم سلوكهم ودوافعهم وكيفية تفاعلهم أصبح ضرورة استراتيجية وليست خيارًا.
حين تستثمر المنظمات وقتًا في تحليل هذه الاتجاهات، فهي تفتح أمامها أبوابًا جديدة لـ:
- تصميم حملات تواصل موجهة تصل إلى الجمهور عبر المنصات الأنسب.
- توفير فرص تطوع أكثر شمولًا ومرونة تراعي تنوع الفئات العمرية والاهتمامات.
- بناء علاقات طويلة الأمد تُفضي إلى دعم مالي واستدامة مؤسسية.
ويبرز هنا جانب بالغ الأهمية يتعلق بتجربة المستخدم، إذ تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من نصف زيارات المواقع تأتي من الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، بينما تُنفذ غالبية التبرعات عبر الحواسيب المكتبية. وهذا يعني أن تصميم تجربة تصفح وتبرع سهلة وسلسة عبر الهاتف لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة أساسية.
ولتحسين تفاعل المتطوعين، يمكن للمنظمات اتباع خمس خطوات عملية:
- تصميم أدوار قصيرة المدى ومرنة تناسب جداول الحياة المزدحمة.
- الدمج بين البريد الإلكتروني ووسائل التواصل لسرد قصص واقعية تحفّز على العمل.
- اعتماد لغة تواصل شاملة تعكس تنوع خلفيات المتطوعين وثقافاتهم.
- تقديم فرصة تطوعية افتراضية واحدة على الأقل لتوسيع دائرة الوصول.
- قياس مؤشرات التفاعل بانتظام لتطوير الأساليب وفق النتائج.
بهذه الاستراتيجيات، لا تكتفي المنظمات غير الربحية بمواكبة التغيير، بل تتحول إلى كيانات أكثر استجابة وارتباطًا واستدامة، قادرة على بناء علاقات عطاء تتجاوز الحدود الزمنية والمكانية.
خمس استراتيجيات لتعزيز تفاعل المتطوعين في العصر الحديث
استنادًا إلى أحدث الإحصاءات والاتجاهات في مجال التطوع، يمكن للمنظمات غير الربحية أن تتبنى مجموعة من الاستراتيجيات العملية لتوسيع قاعدة المتطوعين وتعزيز ولائهم واستدامة مشاركتهم:
- تصميم أدوار قصيرة المدى ومرنة تراعي انشغالات الأفراد وتمنحهم مساحة للمشاركة بطرق تتناسب مع جداولهم.
- الاستفادة من البريد الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي لعرض قصص واقعية مؤثرة مصحوبة بدعوات واضحة للمشاركة أو الدعم.
- اعتماد لغة تواصل شاملة ومتنوعة تعكس اختلاف الخلفيات الثقافية والاجتماعية للمتطوعين وتشعرهم بالانتماء.
- توفير فرص تطوع رقمية أو افتراضية تتيح المشاركة من أي مكان وتوسع نطاق الوصول الجغرافي للمؤسسة.
- تحليل مؤشرات التفاعل والبيانات بانتظام لتطوير الأساليب وتحسين تجربة المتطوعين بناءً على النتائج الفعلية.
هذه الاستراتيجيات، المبنية على بيانات وتجارب ميدانية، تمكّن المنظمات من أن تكون أكثر مرونة واستجابة للواقع الجديد، وتساعدها على بناء علاقات طويلة الأمد قائمة على المعنى، والانتماء، والأثر الحقيقي.
مستقبل العمل التطوعي يبدأ بفهم من يشارك فيه
يشارك ملايين الأشخاص حول العالم في أنشطة تطوعية كل عام، والسؤال الأهم أمام المنظمات غير الربحية اليوم هو: كيف نهيئ مساحة حقيقية لهؤلاء ليصنعوا أثرهم؟
التطوع اليوم لم يعد قالبًا واحدًا للجميع، بل أصبح أكثر مرونة، رقمية، متجذرة في المجتمع، ومتنوعة في خلفيات المشاركين ودوافعهم.
في موقع البنك الثالث، يجري إعادة تعريف معنى المشاركة في العمل التطوعي. فالتطوع لم يعد مجرد مساهمة وقتية، بل وسيلة لإحداث تغيير تحويلي وبناء مجتمعات أكثر تماسكًا وإنسانية، حيث إن مستقبل العطاء يقوم على المرونة، والشمول، وتمكين الأفراد الذين يؤمنون بأن تأثيرهم الشخصي يمكن أن يغيّر العالم من حولهم.
سواء كنت قائدًا في منظمة غير ربحية أو متطوعًا للمرة الأولى، فإنك تملك اليوم فرصة لصنع فرق حقيقي لأن المستقبل يبدأ بخطوتك الصغيرة نحو خدمة الآخرين.
إن فهم التحولات في سلوك المتطوعين ودوافعهم لم يعد ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة استراتيجية لأي منظمة تسعى إلى البقاء والتأثير. و المستقبل لن يكون حكرًا على الجهات التي تملك الموارد الأكبر، بل على تلك التي تفهم الإنسان أكثر، وتمنحه مساحة حقيقية للمشاركة وصنع الأثر.
التطوع في جوهره ليس عملاً يُدار بالأوامر أو الجداول، بل علاقة ثقة تبنى بين المنظمة والمجتمع وكلما كانت هذه العلاقة أكثر صدقًا ومرونة، كانت أكثر قدرة على الاستمرار.
حتى المنظمات التي تنجح في قراءة ملامح هذا التحول هي التي تعيد تعريف العطاء، ليس بوصفه مساهمة وقتية، بل مسارًا مستدامًا للنهضة الإنسانية والتنموية.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
