عتبة التعلّم: جدلية الخبرة والمأسسة
تثير الحلقة الثانية من بودكاست حكاية القطاع سؤالًا مركزيًا في مسيرة بناء القطاع غير الربحي: كيف نتعلم كأفراد ومؤسسات داخل القطاع؟ وهي تساؤلات مشروعة في ظل شحّ المسارات التعليمية النظامية، وغياب معايير التخصص والاحتراف، رغم أن القطاع اليوم يقف أمام مسؤوليات وطنية في ظل رؤية 2030، تتطلب تأهيلًا نوعيًا، لا مجرد خبرات متراكمة بالعمل الميداني.
يُحسب للحلقة أنها لم تتورط في تقديم وصفة تعليمية سطحية، بل حاولت بناء منطق تدريجي: من الفرد المتعلم إلى المؤسسة المتعلمة، ثم إلى البيئة الناظمة التي تمكّن التعلم كمنظومة. وكان لهذا التصور انعكاس واضح في تعليقات الضيوف، لا سيما حين انتقل الحوار من المهارات الشخصية إلى الإشكاليات الهيكلية.
غياب التخصص: الحلقة المفقودة في منظومة التعلم
أحد أبرز الملاحظات النقدية التي تناولها الضيوف، هو غياب "التخصص" في العمل غير الربحي، واستبداله أحيانًا بالحماس العاطفي أو الخبرة التطوعية، ما جعل بعض القيادات "تتعلم بالممارسة"، لكن دون تراكم معرفي حقيقي. هذا الطرح يتقاطع بوضوح مع ما جاء في دليل التخصص الصادر عن المركز الوطني، الذي شدد على أهمية بناء مسارات تخصصية مهنية تُمكّن العاملين في القطاع من الانتقال من العمل العفوي إلى العمل المؤسسي .
غير أن الحلقة لم تذهب بعيدًا في تفكيك علاقة التخصص بالتعلم المؤسسي، وكان من الأجدى تعميق النقاش حول ضرورة وجود "شهادات مهنية" أو مسارات تعليمية متخصصة بإشراف المركز الوطني أو الجامعات، تسهم في إرساء هوية مهنية للعاملين في القطاع.
المصادر المعرفية: بين الانفتاح والتشظي
تناولت الحلقة بإيجابية وجود محتوى معرفي متنوع في القطاع، مثل المنصات الرقمية، والدورات، والتجارب التراكمية، لكنها لم تتوقف نقديًا عند إشكالية "توزع هذه الموارد"، وغياب جهة مرجعية تقوم بتجميعها، وتقييم جودتها، وضمان مواءمتها للاحتياجات الوطنية. في هذا السياق، يقدم دليل التخصص رؤية متقدمة بإنشاء "مركز للمعرفة القطاعية" يكون حاضنًا لهذه الجهود ، وهو ما كان يمكن الإشارة إليه لتعميق النقاش.
من التعلم الفردي إلى المنظمة المتعلمة
تُحسب للحلقة إشاراتها الذكية إلى مفهوم "المنظمة المتعلمة" كإطار أوسع من مجرد تطوير الأفراد، حيث تم التطرق إلى بيئة العمل، وثقافة تبادل المعرفة، والدروس المستفادة، بل وتم الحديث عن ضرورة "هندسة تجربة التعلم داخل الجمعيات". ومع ذلك، لم تُفتح زاوية العلاقة بين "التعلم" و"الابتكار الاجتماعي"، والتي تشكل أحد معايير النضج المؤسسي وفقًا لأدبيات الحوكمة الحديثة.
نقد ذاتي محمود.. لكنه يحتاج إلى إطار أوضح
تميزت الحلقة بأنها لم تتورط في التباهي، بل مارست نقدًا ذاتيًا صريحًا، من خلال عرض قصص إخفاقات في التعلّم، واعترفت بوجود ممارسات غير مبنية على تأصيل علمي. غير أن هذا النقد ظل جزئيًا، وكان من الممكن أن يكون أكثر قوة لو أُدرجت تجارب دولية أو إقليمية كأمثلة مقارنة (مثل تجارب المؤسسات التنموية الماليزية أو الهندية في بناء مسارات التعلم المهني)، مما كان سيعطي المشاهد مساحة لتقييم أين نقف فعليًا.
خاتمة: التعلّم ليس خيارًا.. بل بقاء مؤسسي
تضعنا الحلقة أمام حقيقة محورية: أن التعلّم في القطاع غير الربحي السعودي لم يعد ترفًا تنظيريًا، بل خيارًا وجوديًا. وإن كانت الحلقة قد فتحت الباب لحوار نادر حول هذا الموضوع، فإن استكمال النقاش يتطلب دمج توصيات مثل تلك التي حملها دليل التخصص، ومواءمتها مع تجارب العاملين، لتتحول الجمعيات من كيانات تنفيذية إلى مؤسسات منتجة للمعرفة.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
