مقدمة: بين عفوية الواتساب وتحولات التأثير
في أحد الحوارات العابرة التي تحوّلت إلى مفترق فكري، بعث إليّ الزميل محمد بن حمود الدوسري، مدير البرامج والمشاريع في جمعية خدمات الشباب بالسليل، رسالة قال فيها: "معتبط جدًا بالبنك الثالث والمقالات والإثراء الذي يقدمه. وكتاب التأثير المرن جدير بأن يُراجع ويُقرأ، فهو للتثقيف جدير." لم تكن هذه العبارة مجرد توصية بقراءة، بل دعوة مبطنة لإعادة التفكير في هندسة التأثير الاجتماعي.
لقد شكّل كتاب "التأثير المرن" محطة محورية في إعادة تأطير الأسئلة التي نطرحها داخل القطاع غير الربحي، لا سيما في بيئة تتسارع فيها التحديات بينما تتباطأ منهجيات الحل.
عن الكتاب: جدلية الابتكار والأثر
تستلهم آن مي تشانج في هذا الكتاب مبادئ الريادة الرشيقة (Lean Startup) التي طورها إريك ريس، وتُعيد تشكيلها وفق متطلبات التدخلات الاجتماعية. بخبرة هندسية وتجربة قيادية في وادي السيليكون ووكالة التنمية الأمريكية، طورت المؤلفة إطارًا منهجيًا لزيادة الأثر عبر أدوات علمية مثل التجريب السريع، وبناء النماذج الأولية، والتحقق من الفرضيات ميدانيًا.
الكتاب لا يكتفي بالسرد النظري، بل يعتمد على دراسة معمقة شملت أكثر من 200 منظمة غير ربحية ومبادرة اجتماعية من مختلف القارات، ويُقدم نماذج قابلة للتكرار ومؤشرات يمكن قياسها، مع مرونة في التكيف مع السياقات المحلية.
التفكير الكبير، التنفيذ الذكي: المبادئ المحورية
1. الإلهام (Inspire): الرؤية لا تكفي
الفكر الاستراتيجي القائم على الأثر يبدأ من طرح أسئلة جذرية: ما المشكلة الحقيقية؟ من المستفيد الحقيقي؟ كيف نعرف أننا نُحدث فرقًا؟ تشانج تدعو إلى ما تسميه "التفكير الكبير والانطلاق الصغير"، أي تصميم تدخلات طموحة تُختبر أولًا على نطاق محدود، ثم تتوسع تدريجيًا وفق أدلة واقعية.
2. التحقق (Validate): الفرضيات لا تُصدّق بل تُختبر
في هذا المحور، تتجلى قوة المنهج العلمي. على عكس كثير من المنظمات التي تُطلق برامجها بناءً على نوايا حسنة، يطالبنا النموذج الرشيق ببناء فرضيات دقيقة واختبارها في الميدان، ثم تعديل البرامج بناءً على نتائج قابلة للقياس. وهذا النهج يشبه إلى حد كبير طريقة إدارة الابتكار في الشركات التقنية الكبرى، لكنه هنا يُعاد توجيهه نحو الصالح العام.
3. التحوّل (Transform): من الإحسان إلى التغيير
التحدي الأكبر الذي يطرحه الكتاب هو الانتقال من منطق "النشاط" إلى منطق "النتيجة". آن مي تشانج تؤكد أن النجاح في القطاع الاجتماعي لا يُقاس بعدد الفعاليات أو تقارير الإنجاز، بل بمدى التغير الحقيقي في سلوك الأفراد ونوعية حياتهم. وتدعو إلى بناء محركات نمو ذاتية داخل البرامج الاجتماعية، بحيث لا تعتمد فقط على التمويل المستمر، بل على نماذج قادرة على التوسع الذاتي والمرونة أمام التغيرات.
التحليل في السياق السعودي: من الاستدامة إلى القابلية للتوسع
السياق السعودي يشكّل أرضية خصبة لتطبيق مبادئ "التأثير المرن". فوجود كيانات تنظيمية مثل المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، والهيئة العامة للأوقاف، يفتح المجال أمام تبني منهجيات مبنية على الأدلة، تتجاوز البيروقراطية وتؤسس لثقافة مؤسساتية جديدة تقوم على:
-
بناء مؤشرات قياس أثر ترتبط مباشرة بالأهداف التنموية لرؤية 2030.
-
التوسع في استخدام النماذج الأولية (MVP) للبرامج المجتمعية.
-
ربط الدعم المالي بقدرة المبادرات على التكرار والتوسع.
-
إشراك المستفيدين في تصميم الحلول وتقييمها.
الفرصة تكمن في الانتقال من منظمات "تنفذ" إلى منظمات "تتعلم وتتطور". ومن جمعيات "تنفق" إلى جمعيات "تُعيد استثمار الأثر".
نحو نموذج سعودي للتأثير الرشيق
آن مي تشانج لم تكتب عن السعودية، لكن الواقع السعودي قادر على أن يُضيف إلى ما كتبته. فما تملكه الجمعيات والمؤسسات الأهلية في المملكة من شغف، وتمويل، ومرونة تنظيمية ناشئة، يجعلها مهيّأة لتكون رائدة في تبني هذا النموذج. بل إن الحاجة اليوم باتت ملحّة لتأسيس مختبر سعودي للتأثير الاجتماعي، يُنتج معرفة تطبيقية تُغني السياق العالمي.
ختامًا: من المبادرات إلى المنهجيات
من يقرأ كتاب "التأثير المرن" لا يعود كما كان. فهو لا يُقدم حلولًا جاهزة، بل يُعيد تشكيل الطريقة التي نطرح بها الأسئلة، ونقيس بها النجاح، ونصمم بها البرامج.
في "البنك الثالث"، نؤمن أن المعرفة هي المحرك الأول للتأثير المستدام، وأن الحلول لا تُستورد بل تُبنى. ولهذا نوصي قادة القطاع غير الربحي، ومطوري البرامج، وصناع السياسات، بأن يجعلوا من هذا الكتاب جزءًا من أدواتهم الاستراتيجية.
بقلم: هلال بن حسين القرشي
مراجعة تحليلية لكتاب: Lean Impact: How to Innovate for Radically Greater Social Good
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
