مشاهدات من القطاع الثالث في بريطانيا

ع ع ع

زياد بن محمد

كنت في رحلة عمل مع فريق الأبطال الذي يمثل 3 منظمات تعمل في القطاع الثالث بالمملكة العربية السعودية. اخترنا فيها زيارة لندن وبيرمنجهام كوجهة للبحث عن التجارب الملهمة والتي تتقاطع مع طبيعة عمل مختلف المنظمات التي يمثلها فريقنا.

قبل الرحلة بأسبوع، كان السؤال الأكثر إلحاحا علي : هل أنا جاهز على المستوى الذهني والنفسي لخوض غمار هذه الرحلة والاستفادة منها بأكبر قدر ممكن أم لا؟ وحتى آخر يوم قبل الرحلة، لم أكن بذلك التأهب والاستعداد لفك الالتحام من المشاريع التي بدأت وتيرة الإنجاز فيها تتسارع ووقت ومواعيد التسليمات فيها يدنو مع تسارع الأيام.

مع كل ذلك، انطلقنا في الأربعاء (6 نوفمبر 2019) نحو لندن، نتطلع إلى ما يوسع آفاقنا في العمل الذي نقوم به، ونجود من مخرجات الخدمات والمنتجات التي نقدمها ، ونساهم من خلال ذلك في رفع كفاءة وجودة المخرجات التي يقدمها القطاع الثالث لمختلف أصحاب المصلحة الذين نتعامل معهم.

كان جدول الزيارات يبدأ عادة من التاسعة صباحا وحتى الخامسة مساء، كان الفريق يتعامل مع الزيارات كخلية نحل، يلتم شمل الفريق لدى الجهات ذات الاهتمام المشترك، ويتوزع الفريق إذا اختلفت الزيارات في ذات الوقت بحسب اختلاف تخصص منظماتنا والتنسيق مع الجهات. لم تتجاوز رحلة العمل ثمانية أيام، لكنها كانت مليئة بالفوائد والزيارات والنقاشات والأسئلة التي يطرحها الفريق على الجهات والمشاورات الداخلية والأفكار التي كانت تتدفق من ينبوع التجارب التي نسمعها. ولأن اللحظات والإنجازات المتراكمة في فترات وجيزة تحتاج إلى احتفاء (ولو على مستوى ذكرها ونشرها) فقد قمنا بزيارة أكثر من 20 جهة في القطاع الثالث وأقمنا 5 ورش عمل (بين داخلية وخارجية) والتقينا بأكثر من 30 عامل وخبير في القطاع غير الربحي شاركونا تجاربهم خلال السنوات الفائتة في القطاع الثالث في بريطانيا وغيرها الكثير من الساعات التي كان يتناقش فيها أعضاء الفريق مع بعضهم في طريق الذهاب والإياب.

الحصيلة الجمعية من المعارف والخبرات والعلاقات والأفكار والخطط التي جنيناها (كفريق) من هذه الرحلة كبيرة جدا، ولكنني أود أن أذكر في هذه التدوينة أكثر ما شدني وبقي عالقا في ذهني لأن مشاركته ستفيد غيري من العاملين في القطاع، كما أنها ستفيدني مستقبلا وتشكل حافزا لي في فترات انحسار الحماس وتتابع خيبات الأمل أو الشعور بالضعف وتعاقب مبررات الانسحاب.

 

أما الآن سأبدأ في سرد النقاط مع شرح مبسط لكل منها:

  1. (تركيز+ خطوات عملية بسيطة) x تطوير مستمر = نتائج ذات أثر

أبرز سمة تكررت لدى الجهات التي زرناها سواء منها الصغيرة أو الكبيرة، العادية والاحترافية، هي التركيز على قضية مجتمعية واضحة والعمل على خدمتها من خلال عدد من المسارات والتدخلات ( بأولويات مختلفة) والتي تؤدي إلى نتائج ملموسة. لك أن تتخيل أننا قمنا بزيارة جهات احترافية في العمل الاجتماعي مثل جامعة كامبريدج ومؤسسة بيل وميلندا جيتس وغيرها، وكان من الواضح تماما لدى تلك الجهات قضايا يعملون عليها وتدخلات واضحة بأولوية مختلفة تؤدي إلى التغيير الذي يطمحون لإحداثه. لن أتصدى هنا لفوائد التركيز لأنها معروفة، ولكن من المهم النظر إلى العوامل التي تسير جنبا إلى جنب مع التركيز وهي بقية المعادلة التي ذكرتها في الأعلى، سيساعد التركيز على أخذ خطوات عملية بسيطة، ولأن جزءا كبيرا من أدبيات القطاع الثالث ترتكز على الممارسة كمصدر من مصادر البناء المعرفي والنظري، فإنه من المهم الاسترشاد بالمحددات العامة التي يجب مراعاتها في الممارسات والانطلاق في بناء تجربة مستقلة تتلاءم مع سياقنا.

والجزء الأخير من المعادلة هو التطوير المستمر، الذي يشمل الخدمات والمنتجات والعمليات والتشغيل وآليات الإدارة والوسائل التي تستخدمها المنظمة للوصول إلى أهدافها والأفراد العاملين في المنظمة.

وبهذا تستطيع المنظمات أن تصل إلى نتائج ملموسة على المدى البعيد وتشعر بنوع من الرواء الداخلي والتحقق بأن ما تنجزه يوميا، يوصلها إلى ما طمحت إليه.

 

 

  1. الرغبة الداخلية الدافعة (ضرورية جدا)

السمعة الشائعة عن العاملين في القطاع الثالث هي أنهم ممن لم يتم قبولهم في شركات القطاع الخاص ولم يجدوا إلا “شواغر” القطاع الثالث كـ”محطة” وظيفية لا تمت إلى ما يطمحون إليه بصلة. ولأن أحد ركائز التميز في أي قطاع هي تميز وجودة الأفراد العاملين فيه ممن يملكون القدرة والمهارة والرغبة والخبرة اللازمة لتوجيه دفته وتطوير مساهماته. فمن المهم الإشارة إلى أن أكثر الأسباب التي تجعل العاملين في القطاع الثالث -في بريطانيا – يستمرون في العطاء هو إيمانهم الداخلي بأنهم خلقوا لهذا العمل وأن المردود الذي يبحثون عنه لا يتعلق بالماديات فقط (المال) وإنما يرتبط بشكل أساسي بالمجتمع الذي يعيشون فيه ويشكلون جزءا منه. لا يأتي هذا الإيمان بين ليلة وضحاها ولكنه مهم جدا لكي يستمر الشخص في تقديم أفضل ما لديه ويواجه طوفان الأسئلة الذي سينهار عليه كل شهر من أهله وأصدقائه. الإيمان الداخلي والدافع الشخصي يكون عادة مرتبطا بقصتك الشخصية وتاريخك وما واجهته في حياتك، قد يكون الألم الذي واجهته في فترة من حياتك هو أحد المحركات للعمل، وقد يكون غير ذلك.

لا تكمن أهمية الإيمان الداخلي في التصدي لتلك التساؤلات والمصادمات والعقبات فقط وإنما سيدفع ذلك الإيمان بصاحبه للإبداع والابتكار والصمود لتحقيق شيء يذكر.

من أبرز القصص الملهمة التي التقينا بأصحابها، مؤسسة اجتماعية بدأت بفرد يقوم بتقديم خدمة للرواد الاجتماعيين الذي يبحثون عن استشارات من الممارسين والمستشارين الناجحين في سوق العمل من خلال تنظيم جلسات استشارية بين الرواد والخبراء، والتأكد من جاهزية الرائد للجلسة الاستشارية ومتابعة أداء الرائد بعد انتهاء الجلسة. تحتوي شبكة المستشارين على أكثر من 20 مستشار وممارس من الناجحين في الأعمال الريادية في مختلف القطاعات. توسع عدد الفريق الذي يعمل في تلك المؤسسة ليصبح 3 أفراد يقومون بالربط والتهيئة والمتابعة ورصد التقدم.

بعد الانتهاء من سرد قصتهم واستعراض إنجازاتهم سألناهم عن كيفية إدارة كل تلك الأعمال (هنا الصدمة) واكتشفنا أنهم لا يملكون مكتبا يعملون منه وكل ما لديهم هي الأجهزة الشخصية المحمولة Laptops !

هنا ظهر لي أن الإيمان بأهمية ما تقوم به والرغبة الحقيقية في إحداث أثر، سيجعلك تخترع حلولا للمشاكل من أجل البقاء وخدمة الناس وتحقيق ما تصبو إليه.

 

 

  1. الزائدة “المثالية”

وهي على نسق (الزائدة الدودية)!

تتوقف الكثير من المشاريع والأفكار والمبادرات للمثالية الزائدة لدى أصحابها ولعل لعنة الشاعر الذي قال:

ونحن أناس لا توسط عندنا *** لنا الصدر من بين العالمين أو القبر

لا زالت تطاردنا!

كم أوقفتنا المثالية الزائدة وعطلت مشاريعنا وعرقلت أداءنا.

ليس هنالك بأس أن يسعى الإنسان إلى تطوير أعماله ويطلب المزيد من التميز في أدائه ولكن البلاء أن تتوقف الأعمال في إطار التطوير الذي لا يفضي إلى التنفيذ.

وهنا يجدر بي أن أنقل عبارة صاغها أحد الشباب في الرحلة حين قال (نُعَقِد الأعمال ثم نَقعُد !) ولهذا يجدر بمن يجد في أداء منظمته أو مبادرته هذا النوع من “الزوائد المثالية” ألا يتواني عن استئصالها ويشرع في الوصول إلى أهدافه من خلال خطوات بسيطة تصنع النضج والوعي بشكل تراكمي من خلال التجربة.

ولعل أبرز ما قادني لكتابة هذه النقطة هو أحد البرامج التي حضرناها في جامعة كامبريدج حيث يستهدف البرنامج أصحاب المبادرات الاجتماعية الريادية ويحصلون على أنواع مختلفة من الدعم لتطوير مشاريعهم وعلى رأسها ورش العمل. وقد كان هنالك تشابه بيننا وبينهم في العناوين التي تطرح للرواد، ولكن، كانت لدينا علامة استفهام كبيرة قبل البدء في الورشة حيث يستغرق منا العنوان لنطرحه قرابة 4 ساعات لتقديمه (بالشكل المثالي!) بينما تم تقديمه في كامبريدج في غضون “ساعة” بشكل مبسط وسهل للمتلقين ومن غير أي تعقيدات ولا مصطلحات مشبكة تلف الأدمغة وتحير الأذهان !

وكانت هذه الممارسة من صرح تعليمي عتيق، عبارة عن إشارة تدعونا إلى إعادة النظر في كيفية طرحنا للعناوين التي نقدمها وتبسيطها بالقدر الذي يلائم الشروع في العمل لا البناء المعرفي المتكامل لعنوان من العناوين.

المصدر

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

اشترك في نشرتنا البريديّة

scroll to top