من رياض الخبراء إلى السيليكون فالي: التجربة الملهمة لأوقاف محمد الخضير

ع ع ع

في قاعة مكتملة الحضور بجامعة اليمامة في الرياض، كان كل شيء يشي بأننا أمام منتدى من نوع مختلف؛ منتدى يضع الأوقاف التعليمية تحت المجهر، لا بوصفها مصدر تمويل فقط، بل كأداة استراتيجية لصناعة الاستدامة ودعم التنمية.


تقدم مدير الجلسة، الإعلامي وهيب الدخيل – مدير العلاقات العامة في MBC Media Solutions – بصوت هادئ لكنه واثق، مرحِّبًا بالضيوف والحضور، وممهِّدًا لحلقة نقاش حملت عنوان:

«الأوقاف التعليمية ودورها في تحقيق الاستدامة ودعم التنمية».


جلس إلى المنصة أربعة أسماء تمثّل تلاقي الخبرة العملية مع الرؤية الاستراتيجية:


  • الأستاذ خالد بن محمد الخضير – ناظر أوقاف الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير رحمه الله.

  • الدكتور خالد بن سليمان الراجحي – رئيس مجلس الأمناء في مؤسسة الراجحي الإنسانية.

  • المهندس مشاري بن فهد الجويرة – المدير العام للمسؤولية المجتمعية والعمل التطوعي في وزارة التعليم.

  • الدكتور صالح بن عبد الله الشمراني – المدير التنفيذي لبرنامج حصة القبيسي للتميز العلمي.


وبينما قدّم وهيب الدخيل إطارًا عامًا للعلاقة بين الوقف والتعليم والتنمية، كانت إحدى المحطات الأبرز في هذه الجلسة هي مداخلة الأستاذ خالد بن محمد الخضير، التي تحوّلت من سرد تجربة خاصة إلى درس عملي في هندسة الوقف التعليمي.


حين تقود الخبرة مسار الوقف

بدأ خالد الخضير حديثه من نقطة واضحة:

أسرة الخضير لم تختَر التعليم صدفة، ولم تتجه للأوقاف التعليمية بوصفها “موضة” في العمل الخيري؛ بل جاءت هذه الوجهة بعد عقود من العمل في التعليم – ربحياً وغير ربحي – تجاوزت الثمانين عامًا.


هذه الخبرة الطويلة جعلت قرار تخصيص الوقف للتعليم قرارًا طبيعيًا ومنطقيًا:

“نوقف في المجال الذي نفهمه، ونستثمر في المساحة التي نعرف تفاصيلها.”

هذا المبدأ البسيط يعبّر عن واحدة من أهم الممارسات العالمية في إدارة الأوقاف:

مواءمة مجال الوقف مع خبرة الواقف، بحيث لا يكون الوقف مجرد تمويل، بل إضافة نوعية في تصميم البرامج، وفهم الاحتياج، وقياس الأثر.


التعليم العام… “المظلوم” في خريطة الأوقاف

بنبرة هادئة لكنها حاسمة، لفت الخضير الانتباه إلى فجوة جوهرية:

  • معظم الأوقاف التعليمية في الخمسين سنة الماضية تتركز على:

    • الأوقاف الجامعية، المرتبطة بالبحوث والمنح.

    • أو المدارس الدينية وحلقات تحفيظ القرآن والمساجد.

بينما التعليم العام – مدارس البنين والبنات المنتشرة في المدن والمحافظات والقرى – لم يحظَ بالدعم الوقفي الكافي، رغم أنه يمثّل القاعدة التي يمر بها كل شاب وشابة في المملكة.


بهذا التوصيف المباشر، قدّم الخضير تشخيصًا يشبه ما تفعله التقارير البحثية:

تحديد الفجوة أولًا، ثم بناء نموذج تدخّل يعالجها.


المسار الأول – البيئة المدرسية… استثمار في الأساس

في لغة قريبة من الخطاب التنموي، أشار الخضير إلى أن ميزانية التعليم في المملكة تتجاوز 200 مليار ريال سنويًا، ومع ذلك تبقى المدارس بحاجة مستمرة إلى:

  • مبانٍ ملائمة ومحفزة.

  • صيانة دورية تحافظ على جودة البيئة التعليمية.

  • تجهيزات تقنية وتعليمية حديثة.

  • أثاث مريح ووظيفي.

  • برامج تعليمية مساندة.

هنا اختارت أوقاف محمد الخضير أن تتدخل في واحدة من أكثر النقاط تأثيرًا وأقلّها ظهورًا في الإعلام:

دعم البيئة المدرسية في التعليم العام.

ولأكثر من 25 سنة متواصلة، نفّذت الأوقاف برنامجًا طويل المدى يشمل:

  • صيانة عدد من المدارس الحكومية.

  • تزويدها بالتجهيزات التقنية والمعامل.

  • دعم الأثاث والمرافق الأساسية.

  • الإسهام في تمويل برامج تعليمية داخل هذه المدارس.

هذا النوع من التدخل لا ينتج “صورة جميلة” لوسائل التواصل الاجتماعي، لكنه يصنع – بهدوء – فرقًا في تجربة مئات وربما آلاف الطلاب، ويخلق بيئة تعلم تحترم الطالب والمعلم معًا.


المسار الثاني – الموهبة… مدرسة صغيرة بحلم عالمي

إذا كانت البيئة المدرسية هي الأساس، فإن الموهبة هي الوقود الذي يحوّل التعليم من عملية تلقين إلى مشروع نهضة.


من هنا انتقل الخضير للحديث عن واحدة من أكثر التجارب إلهامًا في الوقف التعليمي:

مدرسة نموذجية للموهوبين في محافظة رياض الخبراء غرب القصيم.


المعطيات التي ذكرها ترسم لوحة مختلفة تمامًا عن الصورة النمطية للمدارس في المحافظات الصغيرة:

  • مدرسة نموذجية للموهوبين والموهوبات.

  • عدد الطلاب: حوالي 120 طالبًا و120 طالبة.

  • اختيارهم يتمّ بعناية عبر شراكة رسمية مع مؤسسة موهبة.

  • إمكانيات وتجهيزات تعليمية عالية.

  • نموذج تعليمي يوازي – كما وصف – ما يمكن أن تراه في مدارس منطقة Silicon Valley في الولايات المتحدة.

قيمة هذه التجربة لا تكمن في “المدرسة” فقط، بل في الرسالة التي تحملها:

أن التعليم النوعي ليس حكرًا على العواصم والمدن الكبرى، وأن محافظة صغيرة يمكن أن تحتضن نموذجًا تعليميًا عالمي المعايير إذا توافرت رؤية وقفية جادة وشراكات واعية.


الوقف شريك لا بديل… هندسة العلاقة مع الدولة

من النقاط اللافتة في حديث الخضير تأكيده على أن الوقف:

  • ليس بديلًا عن الدولة،

  • ولا منافسًا لها،

  • بل شريك يسد فجوات، ويختبر نماذج جديدة، ويدعم التنفيذ في الميدان.


أوقاف محمد الخضير تعمل في:

  • شراكة مع وزارة التعليم.

  • تعاون مع مؤسسة موهبة.

  • تنسيق مع جهات تعليمية أخرى.


هذا النهج ينسجم مع أفضل الممارسات العالمية التي تتبنّاها كبرى الجامعات ومراكز الفكر:

القطاع الحكومي يرسم الإطار، والقطاع الوقفي والأهلي يضيف المرونة والابتكار والسرعة.


قراءة تحليلية – لماذا تبدو تجربة الخضير مختلفة؟

من منظور تحليلي، يمكن تلخيص تميّز تجربة أوقاف محمد الخضير في عدة نقاط محورية:

  1. التخصص المبني على الخبرة
    الوقف هنا لا يشتت جهده في عشرات المجالات، بل يركّز على التعليم؛ تحديدًا التعليم العام والموهبة، انطلاقًا من تاريخ طويل للأسرة في هذا القطاع.

  2. اختيار فجوة حقيقية لا منطقة مريحة
    بدلاً من زيادة أعداد الأوقاف الجامعية، اتجهت التجربة إلى حيث الحاجة أعلى:
    مدارس التعليم العام في مختلف المناطق، والموهوبون في محافظة صغيرة.

  3. الاستدامة الزمنية للبرامج
    برنامج يستمر لأكثر من 25 سنة لدعم المدارس ليس “مبادرة موسمية”، بل سياسة مستدامة، تتيح تراكم الأثر وتعميق النتائج.

  4. لَامركزية التميّز التعليمي
    مدرسة رياض الخبراء ليست مجرد مدرسة؛ إنها رسالة بأن المستقبل يمكن أن يبدأ من الأطراف، لا من المركز فقط.

  5. التحالف مع الموهبة كخيار استراتيجي
    ربط الوقف بخط الموهبة ينسجم مع توجهات رؤية السعودية 2030 في الاستثمار في رأس المال البشري، ويحوّل الوقف من “إعانة” إلى استثمار في العقول.


من المنتدى إلى الخريطة الوطنية للأوقاف التعليمية

الجلسة التي استضافتها جامعة اليمامة لم تكن مجرد نقاش عابر.

كانت – في حقيقتها – أشبه بـورشة تفكير استراتيجي مفتوحة، شارك فيها:

  • صوت الوقف الأسري التعليمي (أوقاف الخضير).

  • وصوت المؤسسات الإنسانية الكبرى (مؤسسة الراجحي الإنسانية).

  • وصوت الجهة الحكومية المنظمة والمشرّعة (وزارة التعليم).

  • وصوت البرامج النوعية في التميز العلمي (برنامج حصر القبيسي).

في هذا السياق، جاءت مداخلة خالد الخضير لتشكّل نموذجًا عمليًا يمكن أن يُبنى عليه كثير من السياسات والمبادرات القادمة في مجال الأوقاف التعليمية.


نموذج يستحق أن يُدرَّس

من رياض الخبراء إلى السيليكون فالي، لم يكن الخضير يسوّق لإنجاز أسري بقدر ما كان يطرح معادلة واضحة:

  • إذا اجتمعت خبرة متجذرة في التعليم،

  • مع رؤية وقفية واعية،

  • ومع شراكات حكومية ومجتمعية ذكية،


فإن الناتج ليس مجرد مدرسة، ولا برنامج صيانة، بل تحوّل هادئ في مستقبل التعليم العام، ينعكس على الاستدامة والتنمية لعقود قادمة.


هذه التجربة، كما خرجت من منصة جامعة اليمامة، ليست مجرد قصة نجاح؛

بل مادة خام تصلح لأن تتحول إلى:

  • دراسة حالة في كليات الإدارة والوقف.

  • نموذج يحتذى به في مجال الأوقاف التعليمية على مستوى المملكة.

  • وإلهام عملي لكل من يسأل:
    كيف يمكن للوقف أن يكون أكثر من “مبنى”، ليصبح “فكرة تغيّر مستقبل جيل”؟
  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top