دان بالوتا (Dan Pallotta): حين يخلخل مفاهيمنا عن العمل الخيري

ع ع ع

بين توصيتين… غصت في بحرٍ لم أرد النجاة منه!

في أقل من أسبوع، وصلتني توصيتان من شخصيتين مختلفتين تمامًا في التكوين والمزاج؛ الأولى من حمد الكلثم الذي يستنطق الأشياء من عمقها، والثانية من محمد المطيري الذي لا ينحاز إلا لما يوقظ العقل.

والحديث عن مقطع قصير على منصة TED، لكن ما إن شاهدته حتى غرقت في بحر دان بالوتا (Dan Pallotta)، ذاك الغارق في محبة الخير، والساخط على الطريقة التي نُدار بها.

محاضرته الشهيرة "The way we think about charity is dead wrong" هزّتني لأنها لا تنتقد البنية التنظيمية فحسب، بل تفكك قناعاتنا الأخلاقية عن العمل الخيري. إنها دعوة جريئة لإعادة تعريف: ما هو العمل الخيري؟ ومن يحق له أن يربح؟ وما معنى الكفاءة في عالم يعاني من التناقضات؟


الجمعيات ليست قدّيسين… فلماذا نحاكمهم كأبرار؟

يبدأ بالوتا بالحديث عن التمييز العميق بين القطاع الربحي وغير الربحي. في عالم الشركات، يُكافأ المدير على توسيع السوق وزيادة العائد. أما في الجمعيات، فإن المدير الذي ينفق على التوظيف أو التسويق أو بناء النظام المؤسسي، يُدان بوصفه "مبذرًا"، حتى وإن كانت نتائجه غير مسبوقة.

"من غير المقبول اجتماعيًا أن تجني أرباحًا من التخفيف من ألم الناس، لكن لا مشكلة في أن تجني الأرباح من بيع ما يضرهم"
— دان بالوتا

هذا التناقض في المعايير الأخلاقية جعل القطاع غير الربحي محرومًا من أدوات المنافسة، ومقيدًا برؤية قاصرة عن معنى الأثر الحقيقي.


مصيدة "التكاليف التشغيلية": حين تُذبح الكفاءة باسم الزهد

يُسهب دان في نقد الهوس بنسبة التكاليف الإدارية والتشغيلية، الذي حول منظمات غير ربحية كثيرة إلى كائنات هزيلة تنظيميًا. لأن المانحين والمجالس يتوقعون أن تكون تلك النسب "قريبة من الصفر"، أصبحت المنظمات:

  • تتجنب التوظيف المحترف.

  • ترفض الاستثمار في التقنية.

  • تعزف عن التسويق والتجريب.

لكن النتيجة الحقيقية لهذا الزهد القسري؟ منظمات غير قادرة على التوسع، وعلى إحداث فارق جذري في حياة الناس.


هل الاستثمار في التبرعات... يُعد خطيئة؟

يروي بالوتا قصة حملات جمع تبرعات لسرطان الثدي، أنفقت الملايين في التسويق، لكنها جمعت مئات الملايين. هذا المثال الصارخ يثبت أن الإنفاق ليس عدو التأثير، بل وسيلته.

يقول:

"لو استثمرنا 100 ألف دولار لجمع مليون، فهذا خير من إنفاق 10 آلاف لجمع 50 ألفًا. لكننا نُكافئ الثانية لأن كلفة جمع التبرعات أقل… لا لأن العائد أكبر!"


أرقام صادمة… لكنها منطقية

يعرض دان بالوتا أرقامًا تعكس الفجوة بين ما يسمح به المجتمع للقطاع الربحي، وما يُضيّقه على القطاع غير الربحي:

  • أكثر من 140 شركة ربحية تتجاوز إيراداتها مليار دولار سنويًا.

  • في المقابل: منظمة غير ربحية واحدة فقط تفعل ذلك.

السبب؟ ليس في غياب القضايا المهمة، بل في النظرة التي تحرم الجمعيات من أدوات التوسع والاستثمار والنمو.


في السعودية: هل نكرر الأخطاء… أم نصنع نموذجًا جديدًا؟

القطاع غير الربحي السعودي اليوم على موعد مع تحول تاريخي، مدفوعًا برؤية 2030، وتطلعات حكومية طموحة لرفع مساهمته في الناتج المحلي إلى 5%. لكن السؤال المهم هو:
هل سيتحول هذا النمو الكمي إلى أثر نوعي؟

هذا لن يحدث إذا واصلنا محاسبة الجمعيات بناءً على نسبة التشغيل بدلًا من معيار الأثر. بل نحتاج إلى:

  • تغيير ثقافة العطاء من "التبرع من أجل الشعور الطيب" إلى "الاستثمار في التغيير الحقيقي".

  • تبني منهج تمويلي جديد يشجع على النمو، ويكافئ الابتكار، ويحتمل الفشل المؤقت في سبيل النجاح المستدام.

  • إعادة النظر في مؤشرات الحوكمة لتُقيس التأثير لا فقط الامتثال المالي.


"بالوتا" ليس خطابًا… بل مرآة

ما يقدمه دان بالوتا (Dan Pallotta) في خطابه ليس نظرية مجردة، بل مرآة قاسية تكشف ازدواجية المعايير الأخلاقية التي نحكم بها على منظمات العطاء. مرآة تقول لنا:

إن كُنتُم تطلبون نتائج كبيرة، فامنحوا المنظمات الوسائل الكبيرة.


ماذا بعد؟

شخصيًا، ما زلت أُعيد المقطع، وأراجع أوراق المشاريع الخيرية التي أعرفها. كل سطر من سطور "بالوتا" يُجبرني أن أعيد التفكير في مفاهيم لطالما ظننتها مُسلّمات.

وأعتقد أن الوقت قد حان لنقل هذه الأسئلة إلى طاولة الحوار المؤسسي في جمعياتنا، وبين مسؤولي المانحين، وفي أدبيات الحوكمة والتنظيم.


رابط المحاضرة:

🔗 The way we think about charity is dead wrong – Dan Pallotta

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top