مدخل: حين يتحول المدير التنفيذي إلى بوصلة التحول
في زمن تتسارع فيه المتغيرات وتتعاظم التحديات أمام القطاع غير الربحي، لم تعد أدوار المدير التنفيذي تقتصر على التسيير الإداري أو حسن التنفيذ، بل باتت تتطلب قيادة استراتيجية تجمع بين عمق الفهم للحوكمة، والقدرة على بناء شراكات، وتطوير فرق، ورسم مستقبل للجمعيات بأفق مؤسسي واسع. هذا ما سعت إلى إبرازه جمعية إبداع لتطوير القطاع غير الربحي من خلال منتدى المدراء التنفيذيين، الذي عُقد يوم الاثنين 19 مايو 2025م الموافق 21 ذو القعدة 1446هـ.
المنتدى مثّل محطة مهنية نوعية جمعت نخبة من القيادات التنفيذية والخبراء في القطاع، وجاءت أوراقه العلمية لتناقش قضايا جوهرية على طاولة الإدارة: من العلاقة مع مجلس الإدارة إلى الشراكات الاستراتيجية، مرورًا ببناء الفرق وتعاقب القيادات.
أُعدّ هذا التلخيص ونفّذه مشكورًا الأستاذ منير بن عويض اليزيدي، المدير التنفيذي لجمعية تحفيظ بني يزيد، وهو ما يعزز القيمة الأدبية والاحترافية لهذا العمل الذي نقدّمه هنا بصيغة تقرير علمي صحفي.
الورقة الأولى: العلاقة الاستراتيجية بين المدير التنفيذي ومجلس الإدارة
د. خالد السريحي
المدير العام للمركز الدولي للأبحاث والدراسات "مداد"
استهل المنتدى بأولى أوراقه التي تناولت العلاقة المحورية بين المدير التنفيذي ومجلس الإدارة، حيث أوضح الدكتور خالد السريحي أن هذه العلاقة ليست مجرد تنظيم إداري، بل تمثّل واحدًا من أعظم أصول الجمعية. إن نضج العلاقة بين الطرفين ينعكس على فاعلية الحوكمة، وعلى قدرة الجمعية على تحقيق رسالتها بجدارة، وعلى مصداقيتها أمام الجهات الرقابية والمانحة.
وقد طرح د. السريحي ثماني قواعد حيوية لضبط هذه العلاقة:
-
وضوح الهدف المشترك: خدمة الدين والمجتمع.
-
تحديد الأدوار والمسؤوليات بدقة.
-
تأسيس منهجية واضحة لاتخاذ القرار.
-
التواصل الفعال المستمر.
-
الالتزام بالأنظمة واللوائح.
-
التقييم الدوري لأداء المجلس والمدير.
-
وجود آلية لحل النزاعات.
-
تقوية الروابط الاجتماعية والمهنية.
وأكدت الورقة أن العلاقة المتزنة بين المجلس والمدير لا تُبنى في لحظة، بل تحتاج إلى استثمار واعٍ في بناء الثقة، ووضوح في المسارات، وتمكين حقيقي يعكس نضج الكيان.
الورقة الثانية: المدير التنفيذي وأصحاب المصلحة (الجهات الرقابية والمانحة)
في الورقة الثانية، تسلّط الضوء على دور المدير التنفيذي كحلقة وصل محورية بين الجمعية وأصحاب المصلحة من الجهات الرقابية والمانحة. وقد أكدت الورقة أن نجاح أي جمعية غير ربحية يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمدى قدرة مديرها التنفيذي على التواصل المهني الشفاف مع تلك الجهات.
تم استعراض أبرز التحديات في هذا المحور، ومنها:
-
ضعف تحليل التقاطعات المشتركة بين أهداف الجمعية وأولويات الجهات المانحة.
-
عدم الإلمام بالسياسات الجديدة للمنح.
-
الاكتفاء بالتقارير الشكلية دون ربطها بنتائج فعلية.
وقدّمت الورقة عدة توصيات عملية:
-
احترام تخصص الجمعية ووضوح تميزها.
-
تقديم تقارير ذكية مبنية على الأثر.
-
استخدام قصص النجاح كأداة لإقناع المانحين.
-
تعزيز الزيارات الميدانية واللقاءات المباشرة.
-
بناء مبادرات تتواءم مع توجهات المانحين.
كما دعت الورقة إلى اعتبار الشفافية والتغذية الراجعة جزءًا من البنية المؤسسية، وإلى بناء استراتيجيات تواصل طويلة المدى تُسهم في استقرار الجمعية وتعزز من فرص تمويلها.
الورقة الثالثة: المدير التنفيذي والفريق التنفيذي – من الثقة إلى التمكين
د. ضيف الله النعمي
المدير التنفيذي لجمعية الوداد الخيرية لرعاية الأيتام
قدّمت هذه الورقة منظورًا عميقًا حول إدارة العلاقة بين المدير التنفيذي وفريقه، موضحة أن القيادة الناجحة لا تتحقق دون بناء الثقة، ووضوح التوقعات، وتمكين الفريق من اتخاذ القرار والنمو المهني.
ركز د. ضيف الله النعمي على أهمية بناء الثقة أولًا، فـ"المدير الذي لا يثق في موظفيه، لن يمنحهم ما يحتاجون ليتميزوا". وانطلقت الورقة من ضرورة المأسسة والحوكمة الداخلية لضمان بيئة عمل ناضجة، يُوزع فيها التفويض بوعي، ويُمارس فيها التمكين لا كإجراء شكلي، بل كفلسفة تنظيمية.
من أبرز الأفكار التي طُرحت:
-
المتابعة المستمرة دون رقابة مَرَضية.
-
التعامل مع مقاومة التغيير كأمر طبيعي.
-
تشجيع النقد البناء واحترام الفكرة لا الشخص.
-
التحفيز الفعّال: من كلمة شكر إلى إتاحة الفرص.
كما أوضحت الورقة "مهددات العلاقة" مثل الإنجازات الوهمية، وتجاوز الصلاحيات، والمركزية المفرطة. واختتمت بتوصية مفصلّة حول ضرورة الدمج بين المقومات الثقافية (الثقة، التواصل، التحفيز) والمقومات التنظيمية (المساءلة، وضوح الأدوار، الحوكمة) لصناعة فريق استثنائي.
الورقة الرابعة: بناء الصف الثاني والتعاقب القيادي
د. فهد الزهراني
المدير العام لجمعية زمزم الصحية
في ورقة ثرية وعميقة، ناقش الدكتور فهد الزهراني مفهوم التعاقب القيادي وأهمية بناء الصف الثاني من الكوادر داخل الجمعيات. انطلقت الورقة من مسلّمة أن العمل الخيري لا يُبنى على الأفراد، بل على المؤسسات، وأن القيادة الإبداعية لا تورّث، بل تُبنى وفق منهجية واعية واستراتيجية.
تناولت الورقة مفاهيم عملية مثل:
-
تحليل الجدارات الوظيفية لبناء برامج تأهيل حقيقية.
-
الزمالات المهنية والماجستير التنفيذي كوسائل لتأهيل القادة.
-
إشراك الصف الثاني في اللجان والمجموعات التنفيذية.
-
توثيق المعرفة داخل وثيقة شاملة لا تعتمد على "الذاكرة الشفوية".
ومن النماذج التي تم استعراضها: تجربة زمزم في بناء قيادات داخلية خلال 6 سنوات، مع تطوير مسار مهني واضح لكل قائد.
وقدمت الورقة تحذيرين مهمين:
-
التمكين الصوري: حين تُمنح الصلاحيات دون أثر حقيقي.
-
الاستقالة الصامتة: حين يشعر الموظف بالخذلان فيتوقف عن العطاء دون مغادرة.
الرسالة الأساسية كانت واضحة: الاستثمار في الصف الثاني ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة وجودية لاستدامة الكيان.
الورقة الخامسة: الشراكات الاستراتيجية كرافعة للتحول المؤسسي
م. موسى الموسى
المدير التنفيذي لمؤسسة عبدالرحمن الراجحي الخيرية
اختتم المنتدى بورقة حملت طابعًا استراتيجيًا خالصًا، حيث تحدّث المهندس موسى الموسى عن الشراكات بوصفها أداة مركزية لبلوغ الأثر والاستدامة. فرّقت الورقة بين "التعاون" و"الشراكة"، وأوضحت أن الشراكة الحقيقية تقوم على قاسم مشترك ومصالح متبادلة.
قسّمت الورقة أدوار الشركاء إلى أربعة:
-
المعرفة (الخبير)
-
المال (الممول)
-
العلاقات (الوسيط)
-
الجهد (المنفذ)
ثم عرضت مكاسب الشراكات للمنظمات غير الربحية، مثل:
-
النفوذ المؤسسي.
-
تنوع الموارد البشرية.
-
رفع جودة الحوكمة.
-
تعظيم الأثر.
ومن أبرز سمات المدير التنفيذي القادر على بناء شراكات:
-
الاتساع في التأثير.
-
الحس المهني العالي.
-
الابتكار والقدرة على التفاوض.
-
استيعاب تعددية القطاعات.
وانتهت الورقة بإبراز أبرز تحديات الشراكات: صعوبة الوصول للتمويل، بناء الفريق المناسب، مواءمة الأهداف، ومأسسة الشراكة بالتوثيق والتقييم.
ختامًا: التأسيس للاحتراف.. لا العفوية
منتدى المدراء التنفيذيين لم يكن لقاءً عابرًا، بل خطوة تأسيسية باتجاه بناء نماذج قيادية مهنية داخل القطاع غير الربحي. جمعية إبداع استثمرت هذا اللقاء لتقديم محتوى علمي تطبيقي موجه مباشرة لاحتياجات الميدان، مستفيدة من تجارب واقعية وممارسات رصينة.
وإذا كان القطاع غير الربحي في المملكة يطمح لمضاعفة أثره في رؤية 2030، فإن بناء مدير تنفيذي محترف هو اللبنة الأولى في هذا الطريق.
تم إعداد هذا التقرير استنادًا إلى التلخيص المعد من قِبل الأستاذ منير بن عويض اليزيدي، المدير التنفيذي لجمعية تحفيظ بني يزيد، والمنشور ضمن أعمال المنتدى بتنظيم جمعية إبداع لتطوير القطاع غير الربحي.جميع الحقوق محفوظة للمؤلفين والجهات المنظمة.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
