الهبات المقيّدة: طوق نجاة مالي أم عبء حوكمي خفي على المنظمات غير الربحية؟

ع ع ع


في هذا المقال نستند إلى معالجة قانونية وتحليلية متقدمة لموضوع الهبات المقيّدة قدّمتها الباحثة القانونية Linda J. Rosenthal, JD عبر مقالها المنشور في For Purpose Law Group بتاريخ 4 ديسمبر 2025 بعنوان: Restricted Gifts: A Primer. وقد قمنا في «البنك الثالث | موسوعة الإثراء المعرفي للقطاع غير الربحي» بمواءمة أبرز ما ورد فيه مع سياق القطاع غير الربحي في المملكة العربية السعودية، مع الحفاظ على الحقوق الأدبية للكاتبة والمصدر الأصلي، وتقديم قراءة تفسيرية أقرب إلى واقع الجمعيات والمؤسسات الأهلية محليًّا.

في نهاية كل عام، يدخل كثير من المنظمات غير الربحية في سباق محموم مع الوقت والميزانيات. أسابيع قليلة قد تعادل أكثر من ثلث إيرادات السنة، وضغوط هائلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من خطط ووعود وميزانيات أُعدّت بعناية. في مثل هذا المناخ، تبدو أي هبة كبيرة تحمل وعودًا سريعة أشبه بطوق نجاة مغرٍ لا يُقاوَم.

لكن خلف هذا البريق يوجد نوع خاص من الهبات يستحق أن نقف عنده طويلًا قبل أن نمد أيدينا: الهبات المقيّدة.

أولًا: ما الهبة المقيّدة فعلًا؟

على المستوى المحاسبي والقانوني، ليست كل التبرعات متشابهة.
الهبة المقيّدة هي تبرع يضع فيه صاحبه شروطًا واضحة أو ضمنية حول:

1 . الغرض الذي تُصرف فيه الأموال

2 . أو طريقة استثمارها

3 . أو توقيت ومقدار الإنفاق منها

قد يصرّ المتبرع مثلًا على أن تُصرف هبته على برنامج تعليمي محدد، أو في مدينة بعينها، أو خلال فترة زمنية معينة. وقد يطلب أن تُحوَّل الهبة إلى صندوق وقفي لا يُسمح بإنفاق الأصل، بل يُكتفى بالعائد فقط.

أحيانًا لا يكتب المتبرع شرطه في خطاب مستقل، بل تصنعه الجهة الخيرية نفسها حين تطلق حملة بعنوان: «كل ريال تتبرع به اليوم سيذهب لشراء أجهزة غسيل كلى». من هذه اللحظة تصبح الجهة ملزَمة – أخلاقيًا وقانونيًا – بتوجيه هذه الأموال لهذا الغرض تحديدًا، حتى لو لم يكتب المتبرع كلمة «مقيّدة» في أي مكان.

هذه الهبات تشبه «هبة لا رجعة فيها» لكنها خاضعة لشرط، أو لمجموعة شروط، يَصعُب الرجوع عنها لاحقًا دون تعقيدات.


ثانيًا: لماذا تجذب هذه الهبات الطرفين معًا؟

جاذبية هذا النوع من الهبات لا تأتي من قيمتها المالية فقط، بل من طبيعة العلاقة التي تخلقها بين المتبرع و الجهة المتلقية.

من جهة المتبرع:
الهبة المقيّدة تمنحه إحساسًا أعلى بالسيطرة، وبأن أمواله لن تذوب في «صندوق عام» غامض، بل ستذهب إلى مشروع أو برنامج يراه بأم عينه. هذا الإحساس يخفّف قلقه ويزيد استعداده للعطاء، خاصة مع المتبرعين الكبار، أو الجهات المانحة المؤسسية، أو العائلات التي تريد ربط اسمها ببرنامج محدد.

ومن جهة المنظمة غير الربحية:
في أوقات الضغط المالي و«شح السيولة»، تبدو الهبات المقيّدة حلًا مغريًا. جهة مانحة تعرض تمويلًا سخيًا لمشروع جديد، أو توسعة برنامج ناجح، أو إنشاء مبنى أو مركز جديد. وفي لحظة التفاوض القصيرة على الشروط، قد يغلب منطق: «لنقبل اليوم، ونحلّ التفاصيل لاحقًا».

هنا يبدأ الخيط الرفيع بين «طوق نجاة» و«عبء طويل الأمد».


ثالثًا: أين تختبئ المخاطر الحقيقية؟

المشكلة ليست في فكرة الهبة المقيّدة ذاتها، بل في طريقة إدارتها.
هناك ثلاثة حقول ألغام رئيسية:


1. تعقيد محاسبي يفوق قدرات كثير من المنظمات

إدارة الأموال المقيّدة تحتاج إلى:

1 . أنظمة محاسبية قادرة على الفصل بين الأموال المقيّدة وغير المقيّدة

2 . تتبّع دقيق لكل ريال: متى دخل؟ وكيف صُرف؟ وعلى أي بند؟

3 . تقارير دورية تُظهر للمتبرع وللجهات الرقابية التزام المنظمة بالشروط

كثير من المنظمات – خصوصًا الصغيرة والمتوسطة – لا تمتلك بعد هذا النضج المحاسبي. قبول هبات مشروطة في هذه الحالة يضيف طبقة تعقيد لا تحتملها الأنظمة ولا الفريق.


2. التزام قانوني قد يستمر رغم تغيّر الظروف

نيّة المتبرع ليست توصية لطيفة؛ في كثير من السياقات تُعامَل كالتزام ملزم.
إذا تغيّرت الظروف جذريًا – ألغيت الأنظمة، تبدّلت الأولويات الوطنية، اندمجت الجمعية مع أخرى، أو تعذّر تنفيذ البرنامج لأي سبب موضوعي – تبقى الجهة، من حيث المبدأ، مقيّدة بنيّة المتبرع الأصلية، ما لم تُعد صياغة الاتفاق أو يُستصدر إذن نظامي أو قضائي لتغيير وجهة الصرف.

في السياق السعودي، ومع حرص الجهات التنظيمية على الشفافية وحماية أموال الواقفين والمتبرعين، يصبح العبث أو التساهل في هذه النقطة مخاطرة حقيقية على مستوى السمعة، وربما على مستوى المسؤولية الشخصية لإدارة الجمعية ومجلس إدارتها.


3. سمعة قد تتضرر بصمت… ثم تنفجر

الإخلال بشروط الهبة المقيّدة لا يضر العلاقة مع المتبرع نفسه فقط، بل قد ينتقل سريعًا إلى دوائر أوسع:

1 . حديث في مجالس رجال الأعمال

2 . همس في أوساط المانحين
3 . أو تغطية إعلامية سلبية تضع اسم الجهة في خانة «عدم الموثوقية»

تتنافس مئات المنظمات على ثقة عدد محدود من كبار الداعمين، ولكن قد تكفي قصة واحدة سيئة لتغلق أبوابًا كثيرة لسنوات.


رابعًا: كيف تتعامل المنظمات غير الربحية مع الهبات المقيّدة بذكاء؟

السؤال ليس: «هل نقبل أم نرفض الهبات المقيّدة؟»
السؤال الأهم: «كيف نقبلها بطريقة واعية تجعلها رافعة للأثر، لا عبئًا إضافيًا؟»

يمكن تلخيص المسار الرشيد في ثلاث لحظات حاسمة:


1. قبل القبول: فحص القدرة والاستعداد

قبل توقيع أي اتفاقية هبة مشروطة، على الجهة أن تسأل نفسها:

- هل لدينا نظام محاسبي قادر على فصل هذه الأموال وتتبعها؟
- هل نملك فريقًا إداريًا وماليًا يفهم طبيعة القيود وقادرًا على الالتزام بها؟
- هل شروط المتبرع واقعية، ومتناغمة مع خططنا الاستراتيجية، أم ستجرّنا لمشاريع جانبية تستهلكنا؟

إن لم تكن الإجابات مطمئنة، فالأصل ليس الرفض الفوري، بل التفاوض لإعادة تصميم الهبة بشكل أكثر مرونة، أو تأجيل القبول حتى بناء الجاهزية اللازمة.


2. أثناء التعاقد: وضوح لا يحتمل التأويل

الفراغ في النصوص هو العدو الأول للهبات المقيّدة.
ينبغي أن تتضمن الاتفاقية أو خطاب التبرع المشروط:

- تعريفًا دقيقًا للغرض الذي ستُصرف فيه الأموال
- حدودًا زمنية واضحة للتنفيذ أو للصرف
- آلية متفقًا عليها للتعامل مع تغيّر الظروف (إمكانية إعادة التوجيه، أو ردّ جزء من المبلغ، أو تحويله لصندوق آخر بموافقة المتبرع)
- التزامًا من الجهتين بالتقارير الدورية وطرق التواصل

كلما كان النص أوضح، كانت إدارة الهبة أسهل، واحتمالات سوء الفهم أقل.


3. بعد الاستلام: حوكمة ومتابعة لا تكتفي بالنوايا الحسنة

الهبة المقيّدة ليست «دفعة» مالية تنتهي عند دخولها الحساب البنكي، بل مشروع حوكمي مستمر.
هذا يعني:

- إدراجها كبند ثابت في تقارير الإدارة التنفيذية لمجلس الإدارة
- تقديم تقارير مخصصة للمتبرع تُظهر كيف استُخدمت الأموال وأين وصلت المشاريع
- مراجعة دورية من المراجع الخارجي (أو لجنة المراجعة الداخلية) للتأكد من الالتزام بالقيود

الرسالة الأهم هنا: حسن النية لا يكفي، من دون أنظمة وأدلة وإثباتات.


خامسًا: ما الذي يعنيه هذا لمجالس الإدارة والقيادات التنفيذية؟

في بيئة تشهد نموًا سريعًا في حجم القطاع غير الربحي، وتزايدًا في تعقيد الأدوات المالية (أوقاف، صناديق استثمار اجتماعي، منح مشروطة، شراكات مع شركات كبرى)، تحتاج مجالس الإدارة إلى تغيير نظرتها للهبات المقيّدة:

ليست كل هبة كبيرة «فرصة لا تُعوَّض»

وليست كل قيد «شرًا مطلقًا» يجب تجنبه

الهبة المقيّدة يمكن أن تكون أداة قوية لتوجيه الموارد نحو أولويات استراتيجية، وبناء علاقة عميقة مع مانح استراتيجي، وتطوير نموذج تمويل أكثر استدامة. لكنها، في الوقت نفسه، يمكن أن تصبح قيدًا خانقًا يحبس المنظمة في مشاريع لا تستطيع تمويل تشغيلها، أو يعرّضها لمسؤوليات لا تقوى عليها.

التمييز بين الحالتين لا يأتي من «حجم الشيك»، بل من جودة الحوكمة: من جرأة مجلس الإدارة على طرح الأسئلة الصعبة، ومن نضج الإدارة التنفيذية في قراءة أثر الهبة على المدى المتوسط والبعيد، لا على مدى شهر أو تقرير واحد.


نحو ثقافة أكثر نضجًا في التعامل مع أموال المتبرعين

قصة الهبات المقيّدة ليست قصة «حيلة قانونية» أو «مصطلح محاسبي»، بل جزء من نقاش أوسع حول كيفية احترام أموال المتبرعين وتعظيم أثرها.

المنظمة التي تعرف متى تقول «نعم» ومتى تقول «دعونا نعيد تصميم هذه الهبة بطريقة أفضل» هي منظمة تتعامل مع نفسها ومع المتبرع باحترام. والقطاع الذي ينضج في إدارة هذا النوع من التبرعات يقترب خطوة إضافية من بناء ثقة مستدامة مع المجتمع والمانحين والجهات التنظيمية، بعيدًا عن الحلول السريعة التي تبدو براقة في ديسمبر… وتكشف كلفتها الحقيقية في فبراير.


هذا المقال مستلهم ومبني جزئيًا على مقال: Restricted Gifts: A Primer – For Purpose Law Group.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top