احتضنت الرياض على مدى 3 أيام من 3 إلى 5 ديسمبر 2025 «منتدى القطاع غير الربحي الدولي (Beyond Profit)» الذي ينظمه المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، كمنصة عالمية تعيد تعريف موقع هذا القطاع في مشهد التنمية السعودي والدولي. لم يكن المنتدى مجرد تجمع للنخب، بل مساحة التقت فيها الحكومات بالمانحين، والجمعيات برواد الأعمال الاجتماعيين، والخبراء بالممارسين، تحت سقف واحد يناقش الأثر والحوكمة والاستدامة بلغات متعددة. ما جرى في قاعاته يوحي بأننا أمام محطة فاصلة في تاريخ منظومة الخير في المملكة، لا تشبه ما قبلها، وتمهّد لما بعدها.
لم يكن «منتدى القطاع غير الربحي الدولي (Beyond Profit)» مجرد فعالية تُضاف إلى رزنامة المؤتمرات المزدحمة في الرياض.
كان، لمن دخل قاعاته بوعي، صدمة حضارية حقيقية للقطاع غير الربحي بكل مكوّناته؛ صدمة تقول بهدوء:
إن ما كان قبل تأسيس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي شيء… وما بعده شيء آخر،
وإن ما كان قبل «بيوند بروفيت» شيء… وما بعده لن يشبهه أبدًا.
دخلتُ القاعة وأنا أحمل في رأسي صورة قديمة للقطاع: متبرّع كريم، جمعية متواضعة، مستفيد صامت، وبركة خير تنزل على الجميع.
خرجتُ منها وأنا أرى خريطة مختلفة تمامًا:
لغة جديدة، أدوات حديثة، ومسارات عمل تتحدث عن الذكاء الاصطناعي، والابتكار، وتمكين المجتمع المدني، وجيل جديد من العطاء، والمنتدى يوزّع وقته بين منصة رئيسية، وورش عمل ميدانية، ومنصة ابتكار، تتجاور فيها عناوين من نوع: «الغایات تصنع السیاسات»، «الذكاء الاصطناعي في خدمة الرسالة»، «العائد من العطاء»، و«ما بعد 2030».
في هذه الخريطة الجديدة، المركز الوطني يجرّ القطاع كله إلى الأمام بقوّة، بينما بعضهم يحاول ـ من بعيد ـ ضبط أنفاسه بعد أول لكمات التغيير.
من خطف القطاع أصلًا؟
السؤال الذي يتداوله البعض في الكواليس اليوم:
من خطف القطاع غير الربحي؟
الإجابة السهلة أن نتهم «الخبراء الجدد» أو «لغة الاستثمار الاجتماعي» أو «العولمة» أو حتى «المركز الوطني».
لكن الحقيقة أقل رومانسية وأكثر إزعاجًا:
القطاع، لسنوات طويلة، لم يُخطف بقدر ما تُرك لتحالف صامت داخل منظومة الخير نفسها:
-
مانح يفضّل قطاعًا مطواعًا،
-
جمعية تقبل بالحد الأدنى من التنظيم،
-
قيادات تعوّدت على الامتيازات القديمة،
-
وبيئة مجتمعية وإعلامية تتسامح مع الغموض ما دام العنوان «عمل خير».
في قلب هذا التحالف غير المعلن، يمكن أن نرى صورتين واضحتين:
مانح يريد قطاعًا لا يزعجه بالأسئلة
يكتب الشيك، يختار العناوين، يفضّل الصور المشرقة في التقارير، وينزعج من كثرة الحديث عن «حوكمة» و«شفافية» و«تقييم أثر».
يريد أن يبقى كل شيء تحت الطاولة:
تفضّل هذا المبلغ… ولا تسألني كيف اتُّخذت قرارات المنح، ولا من حُرم ولا لماذا.
وصقور قطاع يحرسون الامتيازات القديمة
طبقة ضيقة من القيادات، تعوّدت أن تتحدث باسم «العمل الخيري» كله، وأن تحجز مقاعد الصف الأول في كل مناسبة، وأن تعيش في منطقة رمادية بين المال والوجاهة والدين.
لا يزعجهم أن تبقى الجمعيات مبعثرة، ولا أن تبقى المشاريع قصيرة النفس، ولا أن يبقى المستفيد مجرد رقم في تقرير ختامي، ما دامت الأضواء متجهة نحوهم.
هؤلاء جميعًا جزء - بسيط له تأثيره - من منظومة الخير، لكنهم ـ عن قصد أو عن غير قصد ـ سمحوا بأن يُدار القطاع بمنطق:
«النية الطيبة تكفي، ولا داعي لإزعاج الناس بأسئلة الأثر».
لم يكن الخطف إذًا مؤامرة، بل نتيجة خليط من العادة والكسل ورفض المساءلة؛
استثمار في «سمعة العطاء» أكثر مما هو استثمار في أثر العطاء.
المركز الوطني: خصم المنظومة أم فرصة إنقاذها؟
حين أُعلن عن تأسيس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي في أبريل 2019 م وتمت الموافقة على تنظيمه في يونيو 2021م، قرأه بعضهم كجهاز رقابة إضافي، أو جهة ستعقّد ما كان يُدار بالتراضي والعرف.
لكن من يراقب المشهد بعد سنوات يدرك أن المركز يقوم بما كان يجب أن يُفعل منذ زمن:
ينظّم، يوحّد، يضع قواعد، يطالب بأرقام، ويربط القطاع برؤية دولة تريد أن ترى أثرًا حقيقيًا لا مجرد صور.
المفارقة أن أكثر من تذمّر من دور المركز هم بالضبط من ارتاحوا طويلًا لمنطق «اتركونا نعمل الخير بطريقتنا»:
-
مانح لا يريد أن يبرر قراراته،
-
جمعية لا تريد أن تعيد ترتيب بيتها الداخلي،
-
وقيادي قديم لا يحتمل أن يُسأل: ماذا فعلت بكل هذه الميزانيات وكل هذه السنوات؟
المركز، بعكس ما يُشاع أحيانًا، ليس «خاطفًا جديدًا» للقطاع، بل هو شرطي المرور الذي جاء متأخرًا بعد أن ازدحمت التقاطعات وصارت الحوادث شبه يومية.
وجوده يعني أن زمن «افعل ما تشاء وسمّه خيرًا» يقترب من نهايته، وأن منظومة الخير كلها مدعوة لتتكيّف مع قواعد جديدة للّعب.
«بيوند بروفيت»: المرآة التي وُضعت أمام الجميع
ما فعله «Beyond Profit» ليس أقل من وضع مرآة ضخمة أمام القطاع كله:
هذا هو العالم اليوم، وهذه هي اللغة التي يتحدث بها عن الأثر والتمويل والحوكمة والتطوع والابتكار، فأين أنتم؟
المنتدى لم يُصنع لالتقاط الصور فقط، بل ليقول بوضوح:
-
إن الجمعيات التي لا تعرف كيف تقيس أثرها ستجد نفسها خارج اللعبة.
-
وإن المانحين الذين يكتفون بلافتة «النية الطيبة» سيُسألون عن كفاءة قراراتهم.
-
وإن صقور القطاع الذين اعتادوا احتكار المشهد سيضطرون لمشاركة المنصة مع جيل جديد من القيادات؛ أكثر تعليمًا، وأكثر اتصالًا بالعالم، وأقل استعدادًا لقبول «السكوت مقابل الراتب».
-
وإن المتطوع لم يعد «وقتًا فائضًا» بل «ثروة بشرية» يتحدث المنتدى عن احتراقها الوظيفي، وتمكينها، ودورها في النمو الاقتصادي والاجتماعي.
الصدمة الحقيقية في المنتدى ليست في المصطلحات الأجنبية ولا في الضيوف الدوليين.
الصدمة في أن القطاع غير الربحي السعودي ـ لأول مرة بهذا الوضوح ـ يعلن أنه لن يقبل أن يبقى هامشًا في معادلة التنمية الوطنية، ولن يسمح أن تُدار منظومة الخير بمنطق: «أهل الخير يعرفون ما يفعلون، فلا تسألوا».
منظومة الخير تحت المجهر
لنقلها بصراحة:
القطاع غير الربحي السعودي اليوم متقدّم تشريعيًا وتنظيميًا بفضل المركز الوطني، لكنه لا يزال بحاجة إلى مراجعة عميقة في ثقافة منظومة الخير كاملة:
-
في طريقة تفكير بعض المانحين،
-
وفي أساليب إدارة عدد من الجمعيات،
-
وفي نماذج القيادة،
-
وفي توقعات المجتمع والإعلام من هذا القطاع.
هناك مانحون يريدون:
-
تقارير مفصّلة عن كل ريال،
-
ووفاءً كاملًا من الجمعية،
-
وظهورًا إعلاميًا محترمًا،
لكن المنظومة كلها ـ لا المانح وحده ـ لا تزال في كثير من الحالات تتحرج من أسئلة مثل:
-
ما معايير اختيار الجهات والمشاريع؟
-
هل توزيع المنح عادل بين المناطق والفئات؟
-
ما حجم التكاليف الإدارية المقبول حقًا؟
-
وما الأثر الحقيقي الذي حققته هذه المليارات خلال عقد كامل، على الفقر، والتعليم، والصحة، وجودة الحياة؟
بعض الجمعيات، بدورها، اعتادت أن تتلقى لا أن تفاوض، وأن تكتب تقارير ترضي المانح أكثر مما تصارحه بالحقيقة، وأن تُبقي المستفيد في خلفية المشهد، بينما يتقدّم الجميع إلى الصورة.
«Beyond Profit» ـ شاءت الأطراف أو أبت ـ وضع منظومة الخير كلها تحت ضوء قوي:
أضواء قاعة تتحدث عن الشفافية والحوكمة والتمويل الذكي والعدالة في التوزيع، وعن تطوع احترافي، وعن جيل جديد من قادة الأثر.
في هذه الإضاءة، لا يعود السؤال: «هل المانح مخطئ؟»
بل: «هل المنظومة كلها جاهزة لتتعامل مع زمن جديد من الأسئلة؟»
صقور القطاع… وأزمة التقاعد المعنوي
أما «صقور القطاع» الذين تعوّدوا قيادة كل شيء، فيواجهون اليوم أزمة من نوع مختلف:
أزمة التقاعد المعنوي.
جيل جديد يدخل القاعة: قيادات شابة، نساء ورجال، يتحدثون لغة الأرقام والتقنية والشراكات الدولية، ويربطون «الخير» بـ«الاستدامة»، و«الصدقة» بـ«العدالة»، و«المبادرة» بـ«السياسة العامة».
هؤلاء لا ينتظرون إذنًا من أحد، ولا يرون في القطاع مجرد فضاء للعلاقات العامة والظهور الاجتماعي.
المنتدى كشف ـ من دون إعلان ـ أن القطاع لم يعد محتاجًا إلى «زعيم أوحد» يعرّف له طريقه، بل إلى منظومة قيادة واسعة، متعدّدة، تستند إلى المعرفة لا إلى التاريخ الشخصي.
وبعض صقور القطاع الذين لا يريدون قبول هذه الحقيقة سيجدون أنفسهم، خلال سنوات قليلة، يحكون لأصدقائهم عن «الأيام الخوالي» بينما تُدار الطاولة من دونهم، وبأدوات لم يتعلموا التعامل معها.
ما بعد الصدمة: هل نلحق أم نتذمّر؟
يبقى السؤال الأهم: ماذا بعد هذه الصدمة الحضارية؟
لدينا خياران واضحان:
أن المركز الوطني يفتح بابًا واسعًا لمن يريد أن يكون جزءًا من المستقبل،
وأن «Beyond Profit» يربطنا بالمعايير العالمية،
وأن منظومة الخير كلها ـ مانحين، وجمعيات، وقيادات، ومتطوعين، وإعلامًا ـ مدعوة هذه المرة إلى كرسي الامتحان لا كرسي الشرف فقط.
التحوّل الذي يقوده المركز لن ينتظر المترددين.
ومن يظن أن القطاع سيعود إلى ما قبل المركز وما قبل المنتدى، يراهن على زمن لن يرجع.
ما بعد «بيوند بروفيت»: الانحياز لما يجب أن يكون
ما يحدث اليوم هو أن هذا القطاع يتعرّض لأول مواجهة جدية:
-
مركز وطني يكتب قواعد لعبة جديدة.
-
منتدى دولي يربطنا بالعالم ويُعرّينا أمام معاييره.
-
ومنظومة خير تُساق، برفق وحزم في آن واحد، إلى مرحلة لا يكفي فيها أن تكون «طيّب النية»؛ بل أن تكون عالي الكفاءة، واضح الأثر، صادق الأرقام.
الرسالة التي يوجهها «Beyond Profit» إلى بعض المانحين وصقور القطاع، وإلى الجمعيات والمجتمع معهم، ليست تهديدًا بل دعوة:
إما أن تلتحقوا بالتحوّل… أو أن تفسحوا الطريق لمن يريد أن يخدم هذا البلد وهذه المجتمعات بعقل جديد.
ما بعد تأسيس المركز ليس كما قبله.
وما بعد «Beyond Profit» لن يكون كما قبله.
القطاع غير الربحي السعودي دخل مرحلة لا تحتاج إلى من يبكي على الماضي،
بل إلى من يملك شجاعة الاعتراف بما كان، والانحياز لما يجب أن يكون.