هلال بن حسين القرشي
في لقاء "الاستدامة الوقفية وصناديق الادخار"، الذي نظمته شركة استثمار المستقبل بالرياض، لفتني تعليق ذكي من الأستاذ عبدالعزيز بورحمه – الرئيس التنفيذي لشركة الركن الخامس – حين قال: "نحن لا نستثمر في الفنادق من أجل الفندق، بل من أجل رحلة تبدأ وتنتهي بالحج".
جعلني هذا أستعيد بذهني أحد أكثر الأسئلة التي تضعف نضج القرارات الوقفية: هل الوقف هو المبنى؟ أم ما يتيحه من منفعة؟
من مبنى إلى معنى: الوقف بوصفه وظيفة
العديد من المؤسسات الوقفية – لا سيما في البيئات المحافظة ماليًا – تنجذب تلقائيًا إلى الاستثمار العقاري بوصفه "أصلًا آمنًا"، وكأن السلامة تعني العوائد الثابتة، بينما ما يغيب عن هذه المعادلة هو: الهدف من هذا الأصل.
في تجربة شركة الركن الخامس، كان العقار مجرد أداة لتحقيق ثلاثة أهداف:
-
تمويل تكلفة أداء فريضة الحج والعمرة للفقراء.
-
توفير خدمات سكنية لائقة للحجاج ضمن باقات ادخارية ميسّرة.
-
تحقيق استدامة مالية طويلة المدى عبر الاستثمار الفندقي "الحلال".
العقار هنا لم يكن غاية تُستعرض في التقارير، بل أداة تمكين اجتماعي واستثماري معًا، تحقّق غرضًا دينيًا ومجتمعيًا وتمويليًا في آنٍ واحد.
نموذج التملك والتأجير: أسئلة تتجاوز العائد
خلال اللقاء، طُرحت عدة أسئلة من المتحدثين والمشاركين حول تفاصيل نموذج التملك والتأجير، من أبرزها:
-
من الذي يملك الأصول الفندقية؟ الوقف؟ الشركة؟ أم مستثمر خارجي؟
-
هل الأفضل تأجير العقار وتشغيله من طرف ثالث؟ أم تملكه وتشغيله ذاتيًا؟
-
كيف يمكن توزيع العوائد إذا شارك شركاء محليون ودوليون في رأس المال؟
-
ما موقف الجهات الشرعية والتنظيمية من استثمار العوائد في برامج تمويل الحج؟
هذه الأسئلة لا تخص "العقار" بحد ذاته، بل تخص الرؤية الكامنة وراء العقار، وتكشف أن الاستثمار الوقفي العقاري – إذا ما تم دون وضوح في النية والوظيفة – قد يتحول إلى عبء بيروقراطي أو تضخم أصولي غير منتج.
بين الركن الخامس و"تابونغ حاجي"
حين نقارن هذه التجربة مع نظيرتها الماليزية "تابونغ حاجي"، نجد أن كلا النموذجين يستخدم العقار أداة لا غاية.
-
"تابونغ حاجي" يستثمر في الزراعة، والسياحة، والبناء، ويملك عشرات الشركات التابعة، لكن كل هذا في خدمة الحاج المدّخر.
-
شركة الركن الخامس تستثمر في الفنادق كوسيلة لتوفير سكن للحجاج بأسعار مدعومة أو عادلة، تمولها صناديق ادخارية أو زكوية.
المشترك بين التجربتين أن العقار يُدار وفق منطق "دورة الحياة الوقفية"، لا "تكديس الأصول". فالفكرة ليست في المبنى، بل في الأثر الذي يولّده.
ماذا يحتاج القطاع الوقفي السعودي لتجاوز "عبادة العقار"؟
العديد من الأوقاف في السعودية تنفق نسبة كبيرة من رأسمالها في تملّك الأرض أو البناء، ثم تُفاجأ بعد سنوات أنها تفتقر إلى السيولة والتشغيل والاستثمار المؤثر.
ما تحتاجه المنظومة الوقفية ليس الابتعاد عن العقار، بل تحريره من وهم القداسة المالية، عبر:
-
تحويل العقار إلى أصل إنتاجي مرتبط بمشروع مجتمعي.
-
التعامل مع العقار بوصفه مرحلة، لا نهاية، في دورة الاستثمار.
-
فصل إدارة العقار عن إدارة الوقف عبر كيانات متخصصة في التشغيل.
-
الاستفادة من الصيغ المرنة مثل التأجير طويل الأجل، أو المشاركة بالمنفعة، أو التمليك المشروط بالأثر.
بوصلة الوقف ليست في حجمه.. بل في وجهته
حين يفقد الوقف وجهته، يتحول العقار إلى صنم صامت. لكن حين تسترد الجهات الوقفية البوصلة، يعود العقار إلى مكانه الصحيح: أداة في خدمة الإنسان، لا أداة للانبهار الإداري أو التفاخر التقريري.
من مكة إلى إسلام آباد، ومن تجربة الركن الخامس إلى دروس الصناديق الآسيوية، تتكرر ذات القاعدة: المال لا يبني الأثر ما لم تُبْنَ معه النية والغاية.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
