الاستثمار في المواهب: حصان القطاع غير الربحي الأسود

ع ع ع

كيف يمكن لدولارات قليلة تُنفق على التدريب والتطوير أن تقلب معادلة الأثر في المنظمات الخيرية؟

في ظل تصاعد التحديات الاجتماعية، وتزايد سقف التوقعات من القطاع غير الربحي في المملكة، يتجه الضوء تدريجيًا إلى منطقة طالما ظلت في الظل: الاستثمار في الكفاءات البشرية.
فمع رؤية السعودية 2030، التي جعلت من تمكين القطاع غير الربحي أحد ركائز التنمية المستدامة، لم يعد مقبولًا أن تبقى هذه المنظمات رهينة نماذج تشغيلية تتجاهل أهم مورد تمتلكه: الإنسان.

هذا ما يؤكده المقال التحليلي الذي نشرته Stanford Social Innovation Review بعنوان:
"The Business Case for Investing in Talent"
والذي نعيد عرضه وتحليله هنا بدقة، مع إسقاطاته على السياق المحلي السعودي، بما يخدم بناء قطاع ثالث أكثر قدرة واستدامة وتأثيرًا.



لماذا لا يستثمر القطاع غير الربحي في موارده البشرية؟

لعل أحد أكثر التناقضات اللافتة في بنية القطاع غير الربحي عالميًا – وبشكل خاص في بيئتنا المحلية – هو المفارقة بين ضخامة الرسالة وضعف الأدوات التي تُسندها.
فعلى الرغم من أن المنظمات تسعى لإحداث تغيير مجتمعي جوهري، إلا أنها غالبًا ما تفشل في الاستثمار الداخلي في موظفيها، سواء من حيث التعويضات المالية أو بناء القدرات أو التطوير القيادي.

في الولايات المتحدة مثلًا، كشف The Foundation Center أن حجم الإنفاق السنوي للقطاع غير الربحي يبلغ حوالي 1.5 تريليون دولار، إلا أن ما يُنفق منه على تطوير القيادة لا يتجاوز 400 مليون دولار، أي 0.03٪ فقط.
هذا يعادل 29 دولارًا سنويًا لكل موظف، مقارنة بـ120 دولارًا يُنفقها القطاع الخاص على موظفيه.

أما المؤسسات المانحة، التي يُفترض أن تقود التغيير، فلم تخصص أكثر من 1٪ من منحها السنوية على مدى عشرين عامًا لمبادرات بناء القدرات وتطوير القيادات في المنظمات المستفيدة منها.



فكرة بدأت تكتسب زخمًا عالميًا

رغم هذا الواقع، بدأنا نشهد تحولات إيجابية في نظرة القطاع غير الربحي لقضية "الاستثمار في الكفاءات".
تقول مؤسسة ProInspire:

"الاستثمار في المواهب ليس ترفًا؛ بل هو استثمار مباشر في قدرة المنظمة على تحقيق رسالتها وتلبية الحاجات المجتمعية المتزايدة."

هذه القناعة لم تعد حكرًا على قادة الفكر فقط، بل بدأت تنتقل إلى الممولين والموظفين وصنّاع القرار داخل المنظمات، مدفوعة بوفرة الأدلة التي تربط بين تطوير الأفراد وتعظيم الأثر الاجتماعي.



طلب واضح على التطوير… يقابله ضعف في الاستجابة

  • في دراسة شملت أكثر من 500 موظف في القطاع غير الربحي، أجرتها Bridgespan، صرّح الغالبية بأن تطوير القيادات والتخطيط للخلافة القيادية يمثلان أضعف نقاط المنظمات التي يعملون بها.

  • وفي استطلاع أجرته ProInspire عام 2013، أقرّ 93٪ من المديرين بأن التدريب الإداري والقيادي سيحسن من أدائهم،
    بينما قال 50٪ منهم إنهم لا يملكون المهارات أو المعرفة أو الموارد الكافية للنجاح في أدوارهم الحالية.

هذه المؤشرات تكشف عن فجوة عميقة بين حاجة القطاع للتطوير الداخلي وبين واقع التجاهل أو التأجيل المستمر لهذا الملف.



أمثلة على نجاح الاستثمار في رأس المال البشري

1. منظمة Boys and Girls Club of America (BGCA)

استعانت المنظمة بشركة McKinsey & Co. لتحديد السمات القيادية الأربعة الأهم لنجاحها، وشاركت 650 قائدًا من 250 منظمة محلية في برامج تطوير مركزة على هذه السمات.

النتائج كانت مذهلة:

  • تفوق كبير للفروع المشاركة على نظرائها في جمع التبرعات، تسجيل الأعضاء، والاحتفاظ بهم.

  • العائد المالي الناتج من هذه البرامج فاق تكلفتها بمقدار 4 إلى 5 مرات.

2. صندوق Evelyn and Walter Haas Jr.

أطلق برنامج Flexible Leadership Awards، الذي بدأ تجريبيًا عام 2005، ليصبح اليوم مصدر دعم طويل الأمد ومخصص للقيادة في أكثر من 50 منظمة.

  • بين عامي 2005 و2012، قدّم الصندوق منحًا بقيمة 21.6 مليون دولار.

  • خلال المرحلة التجريبية (2005–2010)، حققت 93٪ من المنظمات المشاركة أهدافها، و13 من أصل 14 منظمة زادت ميزانياتها بنسبة 64٪ في المتوسط.



لماذا لا يحدث ذلك في مؤسساتنا؟

الإجابة باختصار: لأننا لا نربط الاستثمار في الموارد البشرية بمؤشرات الأثر المؤسسي.
غالبًا ما يُنظر للتطوير المهني باعتباره تكلفة، لا أداة لتعظيم النتائج.
والأسوأ، أنه يُستبعد من الخطط التشغيلية حتى تفقد المنظمة أحد قادتها، أو يتدهور الأداء، أو يبدأ النزيف الوظيفي.


كيف نغيّر هذا الواقع؟ دروس من منظمات رائدة

🟢 Communities in Schools (CIS):

  • موظفو المكتب الوطني: 50

  • الميزانية: 19 مليون دولار

  • النهج: ميزانية تطوير مهني لكل موظف + نقاش سنوي معمّق حول الأداء والتطلعات والاحتياجات.

  • التصور القيادي: "نحن نؤمن بأن الاستثمار في فريقنا هو ما سيمكننا من مساعدة الطلاب على النجاح." — دان كاردينالي

🟢 GlobalGiving:

  • عدد الموظفين: 30

  • الميزانية: 4 ملايين دولار

  • النهج:

    • تغذية راجعة إلكترونية

    • 1200 دولار سنويًا لكل موظف للتطوير

    • متابعة مؤشرات المواهب بدقة

  • النتيجة: حجم التبرعات نما 4 أضعاف في 5 سنوات مع نمو طفيف في الميزانية والموظفين.



السياق السعودي: نافذة استراتيجية ضمن رؤية 2030

القطاع غير الربحي في المملكة يقف على أعتاب تحول تاريخي:

  • لدينا مركز وطني لتنمية القطاع غير الربحي يضع الاستدامة وجودة الأداء على رأس أولوياته.

  • لدينا توجه لرفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي من أقل من 1% إلى 5% بحلول 2030.

  • لدينا وزارات وجهات حكومية بدأت تربط تمويل الجمعيات بأثرها وليس فقط بأنشطتها.

لكن يبقى سؤال جوهري:
هل سنبني هذا الأثر بأشخاص غير مؤهلين؟ هل نستطيع تحقيق قفزة في النتائج دون أن نقفز في استثمارنا بالناس؟



توصيات عملية للمنظمات السعودية

  1. أدرج بندًا سنويًا للتطوير المهني في ميزانيتك (حتى لو كان بسيطًا).

  2. اربط التطوير الفردي بالأداء المؤسسي العام.

  3. كافئ التعلم، لا فقط النتائج.

  4. أشرك الموظفين في تصميم مساراتهم المهنية.

  5. طالب المانحين بدعم تطوير الموظفين كما يدعمون البرامج.



ختامًا: لننتقل من "التبرع" إلى "التمكين"

لقد أثبتت التجربة أن كل ريال يُستثمر في تدريب موظف أو بناء قائد، يعود بأضعافه على المجتمع.
ما نحتاجه ليس مجرد تمويل، بل فكر جديد يعيد ترتيب الأولويات.

دعونا نعيد تعريف النجاح في القطاع غير الربحي،
لا بعدد الأفراد المخدومين فقط، بل بعدد القادة الذين نُطلقهم، وعدد الفرق التي نُطورها،
فهم الوقود الحقيقي لأي أثر مستدام.



✍️ هذا المقال مستلهم من:
مع حفظ كامل الحقوق الأدبية للمنصة الأصلية، وتقديم قراءة موسعة ومواءمة للسياق السعودي.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

اشترك في نشرتنا البريديّة

scroll to top