اعتمدت الورشة على دراسة ميدانية واسعة شملت تحليل بيانات 183 جمعية، واستعراض أكثر من 46 مبادرة قائمة أو مقترحة، إضافة إلى استخلاص 22 توصية تنفيذية. وبيّنت النتائج أن التحدي الأكبر لا يكمن في غياب الفرص، بل في ضعف التفاعل الاستراتيجي معها.
ففي مجال الثقافة، أظهرت الدراسة حداثة التأسيس وضعف المأسسة، حيث تم إنشاء أكثر من نصف الجمعيات الثقافية في آخر ثلاث سنوات دون توجه استراتيجي واضح.
أما في السياحة، ورغم الدعم المؤسسي المتاح، لم تتجاوز نسبة الجمعيات المنخرطة فعليًا في هذا المجال 5% فقط، ما يعكس فجوة في استثمار الإمكانات.
وفي قطاع الترفيه، سُجل حضور على استحياء للمبادرات المؤسسية، رغم تزايد الحاجة إلى محتوى ترفيهي يحمل بعدًا قيميًا واجتماعيًا.
كما كشفت الورشة عن محدودية مساهمة الجمعيات في المجال الرياضي، إذ لم تتجاوز نسبة مشاركتها في الفعاليات 8%، مع افتقار واضح لنماذج أندية رياضية غير ربحية تسهم في التنمية المجتمعية.
أبرزت الورشة أهمية الانتقال من النمط الخيري الموسمي إلى النموذج التنموي المؤسسي، عبر أدوات الحوكمة، والتخصص، وبناء الشراكات الثلاثية بين الجمعيات، والجهات الحكومية، والممولين. ويُعد ما طُرح في هذه الورشة إطارًا تأسيسيًا لوثيقة سياسات عامة تُرسم بها معالم الدور القادم للقطاع غير الربحي خارج مساحاته التقليدية، وصولًا إلى موقع أكثر تأثيرًا في المشهد الوطني.
الثقافة بوصفها رافعة استراتيجية: قراءة في واقع القطاع غير الربحي
في ظل التحولات العميقة التي تشهدها المملكة، أصبحت الثقافة أكثر من مجرد مظلة فنية أو تراثية، لتغدو محورًا استراتيجيًا في بناء رأس المال الاجتماعي، وتعزيز المكانة الدولية للمملكة. وقد أولت رؤية السعودية 2030 هذا المجال اهتمامًا خاصًا عبر الاستراتيجية الوطنية للثقافة، التي تُعرّف الثقافة باعتبارها “نمط حياة”، وترتكز على خمسة أبعاد رئيسية تشمل تعزيز الهوية الوطنية، وتحسين جودة الحياة، والمساهمة الاقتصادية، والانفتاح الدولي، وتطوير قطاع ثقافي مستدام.
لكن ماذا عن موقع القطاع غير الربحي ضمن هذا الإطار؟ وهل يستطيع أن يتحول من مجرد وسيط دعوي أو خيري، إلى فاعل ثقافي مؤثر؟
تشخيص الواقع: هيكل حديث، دون عمق استراتيجي
تشير نتائج الدراسة الميدانية المصاحبة للورشة إلى أن 64.1% من الجمعيات الثقافية العاملة تأسست خلال السنوات الثلاث الماضية، ما يعكس حداثة التجربة وهشاشتها المؤسسية. كما أن أكثر من 75% من هذه الجمعيات تتركز جغرافيًا في ثلاث مناطق فقط (الرياض، الشرقية، مكة المكرمة)، ما يطرح تساؤلات حول العدالة الثقافية والتوزيع المتوازن للأدوار.
على مستوى القضايا، يغلب على نشاط الجمعيات الطابع التراثي (بنسبة 46.2%) والتوعوي (35.9%)، بينما تتراجع النسب بشكل لافت في مجالات حيوية مثل “الفنون البصرية”، و”تبادل الثقافات”، و”تأهيل الكوادر”، و”اللغة العربية”، وكلها محاور مركزية في التصنيف الثقافي العالمي.
الفجوة بين الطموح والسياسات التنفيذية
رغم وضوح رؤية وزارة الثقافة وتنوع مبادراتها، إلا أن الدراسة تكشف عن غياب الربط المؤسسي بين الجمعيات الثقافية والجهات المعنية، مع غموض في الأدوار وضعف في الاستفادة من المُمكّنات. فقط 11 جمعية من العينة المدروسة (من أصل 39) تتعامل مع التمكين كمفهوم إداري حقيقي، عبر برامج للتأهيل، أو شراكات مع القطاعين الحكومي والخاص.
هذا الواقع يجعل من “بناء الكيانات الثقافية غير الربحية المتخصصة” أولوية لا تحتمل التأجيل، مع ضرورة الانتقال من المبادرات الموسمية إلى الهياكل المستقرة ذات الأثر المتراكم.
فرص لم تُلتقط بعد
التحليل البياني يكشف عن فجوة كبرى في تبني أدوات العصر داخل القطاع الثقافي غير الربحي، مثل التطبيقات الرقمية، منصات المحتوى، الترجمة، النشر العلمي، والمشاركة الجماهيرية. وهي مجالات تُعد من أكثر القطاعات الثقافية قابلية للنمو، ومن أقلها كلفة استثمارية مقارنة بالعائد المجتمعي.
وقد قدّمت الورشة نماذج أولية لمبادرات قابلة للتوسيع، مثل:
- إنشاء صناديق وقفية للأنشطة الثقافية.
- تأسيس مراكز ثقافية مجتمعية بمفهوم وظيفي متعدد.
- إطلاق مسابقات وطنية للفنون الشعبية والشعر والنقد المسرحي.
- تيسير التراخيص وتقنين الشراكات مع الجهات الداعمة.
التوصيات المؤسسية: من الجمعيات إلى البنى الاستراتيجية
لتجاوز هذا الواقع، توصي الورشة – استنادًا للدراسة – بعدد من المسارات الاستراتيجية، أبرزها:
- الاستفادة من الوحدة المركزية "حاضنة الثقافة" التي أطلقت في 28 مايو 2025 للتنسيق والتكامل بين الجمعيات الأهلية المهتمة بالثقافة و وزارة الثقافة Ministry of Culture .
- إدراج الجمعيات الثقافية في سلاسل القيمة للبرامج الثقافية الوطنية.
- تطوير مؤشرات أداء تتجاوز عدد الفعاليات إلى قياس الأثر السلوكي والمعرفي.
- دعم الجمعيات التي تتبنى التحول الرقمي والتوثيق العلمي.
- توفير حوافز استثمارية غير مباشرة للكيانات الثقافية المستدامة.
نحو دور ثقافي سيادي للقطاع غير الربحي
ما أظهرته الورشة ليس فقط واقعًا متراجعًا، بل إمكانًا غير مفعل. فإذا كانت الثقافة جزءًا من السيادة الناعمة للدولة، فإن للقطاع غير الربحي دورًا مركزيًا في ترسيخها، شريطة أن يُعيد النظر في بنيته، ورسالته، ونماذجه التشغيلية.
لقد آن الأوان لأن يُقرأ “العمل الثقافي” في القطاع غير الربحي ليس كإضافة، بل كضرورة وجودية في بناء الإنسان السعودي، وقيادة المشهد الثقافي العربي بجدارة.
نحو قطاع رياضي غير ربحي فعّال: الفرص الغائبة والإمكانات الكامنة
تُعد الرياضة في المملكة العربية السعودية إحدى الأدوات الوطنية لتحقيق مستهدفات رؤية 2030 في جودة الحياة، والتنمية المجتمعية، والاستثمار الاجتماعي. إلا أن الورشة الوطنية "تفعيل دور القطاع غير الربحي في مجالات الثقافة، والسياحة، والترفيه، والرياضة" كشفت عن خلل جوهري في الحضور المؤسسي للقطاع غير الربحي في المجال الرياضي، رغم نضج التوجهات الحكومية ووضوح الأطر الإستراتيجية.
فجوة التأسيس ومحدودية التوسع
أشارت الدراسة المصاحبة للورشة إلى أن 60% من الجمعيات الرياضية المسجلة تأسست خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وهي دلالة على حداثة التكوين، وعدم رسوخ التجربة. كما أن توزيع الجمعيات لا يزال يتركز في ثلاث مناطق فقط، في حين تعاني مناطق أخرى من ضعف الحضور المؤسسي، ما ينعكس سلبًا على العدالة الرياضية والتنمية المتوازنة.
تشخيص الممارسات: هيمنة الأنشطة الشعبية وضعف التخصص
تشير بيانات الدراسة إلى أن أغلب الجمعيات غير الربحية العاملة في المجال الرياضي تنشط في مسارات تقليدية كتعزيز الصحة (33.3%)، والتنظيمات المجتمعية العامة، بينما تتراجع النسب في القضايا الأكثر تخصصًا واستدامة مثل "التأهيل المهني"، و"اكتشاف المواهب"، و"تبني التكنولوجيا الرياضية". كما أن عدد الجمعيات التي تبنّت برامج تدريبية لتأهيل المدربين أو الحكام أو العاملين في الإدارة الرياضية لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
من الرؤية إلى التنفيذ: هل هناك عوائق هيكلية؟
رغم انفتاح وزارة الرياضة الواضح، وتأكيدها على دعم الجمعيات القادرة على صياغة مبادرات مجتمعية، لا تزال الجمعيات تعاني من ضبابية في التعامل مع الأنظمة والاشتراطات، وغياب كيانات تنسيقية قادرة على ربطها بالجهات الحكومية والمانحة. أحد المتحدثين أشار إلى غياب أي حضور للقطاع غير الربحي في منتدى الاستثمار الرياضي | Sport Investment Forum (SIF) (SIF 2025)، رغم مشاركة أكثر من 40 دولة، وأكثر من 100 جهة وطنية ترتبط بمجال الاستثمار الرياضي.
الإمكانات غير المفعلة: من الأكاديميات إلى استثمار القيم
طُرحت في الورشة نماذج مهمة، مثل "أكاديمية فارس الرياضية"، التي نجحت في الجمع بين الأثر القيمي والعائد الاستثماري، من خلال بيئة تدريبية عالية الانضباط تستهدف فئة النشء وتربطهم بالمجتمع. وأكد المشاركون على أهمية استنساخ هذه النماذج وتكييفها حسب الخصوصية الشرعية والمجتمعية، بل وتوسيع دور الأكاديميات إلى رعاية القيم، لا فقط المهارات.
مقترحات ميدانية قابلة للتفعيل
بناءً على محتوى الورشة، يمكن تلخيص أبرز مسارات التفعيل في خمس توصيات مركزية:
- بناء كيانات رياضية غير ربحية متخصصة تخرج من عباءة الجمعيات العامة متعددة الأهداف.
- إطلاق صناديق استثمار اجتماعي رياضي تدعم المبادرات التي تعزز الصحة والتماسك المجتمعي.
- تأسيس وحدة ربط وتمكين بين الجمعيات والجهات الحكومية والقطاع الخاص، تتولى التنسيق التشغيلي والمرافعة التنظيمية.
- إطلاق دورات تأهيلية ممنهجة للعاملين في الإدارة والتدريب الرياضي داخل القطاع غير الربحي.
- استثمار منصات اللاعبين الحاليين والمتقاعدين لإطلاق مبادرات مجتمعية وقيمية عالية التأثير.
هل تكون الرياضة بوابة الانتقال إلى الجدارة؟
المجال الرياضي يُعد من أكثر المسارات جاهزية للتوسع غير الربحي في المملكة، كونه يجمع بين الجاذبية الجماهيرية والاحتياج المجتمعي، والتمويل المتاح، والتشريعات الداعمة. إلا أن تحويله إلى رافعة غير ربحية يتطلب مغادرة نمط "الأنشطة الجماعية العامة" إلى "البرامج التخصصية المستدامة"، وإدراك أن العمل الرياضي القيمي لا يقل عن أي نشاط خيري في الأثر، وربما يتجاوزه.
السياحة غير الربحية في السعودية: من الانطباع الثقافي إلى التأثير التنموي
في إطار التحولات الاستراتيجية التي تشهدها المملكة العربية السعودية ضمن رؤية 2030، يُعاد تعريف السياحة لا بوصفها قطاعًا اقتصاديًّا قائمًا على الأثر المالي فحسب، بل كمجال تنموي شامل تتقاطع فيه الثقافة، والهوية، والاستثمار الاجتماعي. ويُعد القطاع غير الربحي أحد أهم الأدوات الممكنة لهذا التحول إذا ما أُحسن تمكينه وتوجيهه ضمن منظومة واضحة.
واقع ناشئ بفرص غير مستغلة
تشير نتائج الدراسة الميدانية التي ناقشتها ورشة "تفعيل دور القطاع غير الربحي في المجال السياحي" إلى أن 77% من الجمعيات السياحية لم يتجاوز عمرها ثلاث سنوات، مما يعكس حداثة التأسيس وهشاشة النضج المؤسسي. كما أظهرت البيانات أن أبرز أولويات هذه الجمعيات تتركز في حماية التراث وتعزيز الوعي السياحي بنسبة 76.8%، مقابل غياب شبه تام للتخطيط المستقبلي أو بناء الشراكات أو حتى التسويق السياحي، رغم أنها أدوات جوهرية لأي صناعة قائمة على التجربة والانطباع.
الفجوة بين الاستراتيجية والممارسة
رغم وضوح الأهداف الوطنية للسياحة في المملكة – والتي تشمل رفع عدد الزوار إلى 100 مليون بحلول 2030، وزيادة مساهمة السياحة في الناتج المحلي إلى 10% – فإن حضور القطاع غير الربحي في هذا المسار لا يزال هامشيًّا. ومن المفارقات أن الجمعيات السياحية القائمة تنشط غالبًا في مناطق ذات عمق تراثي وثقافي، مثل القصيم وحائل، دون أن تمتلك الأدوات التي تمكّنها من تحويل هذا الحضور إلى مشاريع نوعية ذات أثر.
ثلاث فرص استراتيجية يجب التقاطها
1. ربط السياحة بالهوية الوطنية عبر تجربة ثقافية منضبطة
أظهرت الورشة أهمية الدمج بين السياحة والرسائل القيمية، من خلال مبادرات مثل الرحلات التراثية، والمسارات التثقيفية، والربط بين السائح وتجربة المجتمع المحلي. هذا الربط لا يسهم فقط في تعزيز الهوية الثقافية للمكان، بل يُعد من أقوى أدوات "الدبلوماسية الشعبية" التي يمكن أن يقودها القطاع غير الربحي بكفاءة.
2. بناء كفاءات محلية احترافية في الإرشاد والإنتاج السياحي
من التحديات المتكررة التي ظهرت في الورشة، غياب الكوادر المتخصصة في التخطيط السياحي والتوجيه الميداني. ولعل مبادرة تأهيل المرشدين السياحيين في الأحساء، التي تمولها أسرة الجبر، تُعد نموذجًا واعدًا لكيفية تطوير رأس المال البشري في هذا القطاع، وجعل الإرشاد السياحي مهنة ثقافية ذات بعد وطني.
3. تنمية السياحة المستدامة من خلال الجمعيات التعاونية والكيانات الوقفية
أشارت بعض التجارب التي عُرضت خلال الورشة إلى نماذج ناجحة للجمعيات التعاونية التي دخلت المجال السياحي كمستثمر اجتماعي، مثل تطوير قرى تراثية أو مسارات مشي ثقافية. هذه النماذج تُظهر أن السياحة ليست حكرًا على القطاع الربحي، بل يمكن أن تكون أداة تمويل ذاتي للقطاع غير الربحي، ضمن معادلة تحقق الاستدامة دون المساس بالهوية.
التوصية المحورية: هندسة العلاقة مع وزارة السياحة
لفت المشاركون في الورشة إلى غياب الوضوح في العلاقة بين الجمعيات غير الربحية ووزارة السياحة، ما خلق ارتباكًا في اعتماد المبادرات وتحديد الاشتراطات. ومن هنا، فإن تأسيس مكتب تنسيقي بين الوزارة والجمعيات المختصة سيكون حجر الأساس لأي استراتيجية ناجحة، تسهم في نقل هذا القطاع من التهميش إلى التأثير.
نحو نموذج سعودي للسياحة المجتمعية
إذا أردنا أن نخرج من عباءة "الاستنساخ الدولي" في السياحة، فإن القطاع غير الربحي مؤهل لابتكار نموذج سعودي يجمع بين الجودة والانضباط، بين الثقافة والتجربة، وبين الاستدامة والهوية. المطلوب اليوم ليس مجرد مبادرات موسمية، بل هندسة متكاملة للقطاع تضع الجمعيات السياحية كفاعل رئيسي في تطوير المجتمعات، وتحقيق رؤية المملكة في أن تكون السياحة من روافدها الاقتصادية والثقافية الكبرى.
الترفيه المجتمعي في السعودية: من الهامش إلى عمق التنمية
في ظل التحولات الهيكلية التي تشهدها المملكة العربية السعودية ضمن رؤية 2030، ووجود الهيئة العامة للترفيه، لم يعد الترفيه يُنظر إليه باعتباره ترفًا أو نشاطًا هامشيًّا. بل أصبح أداة استراتيجية لتعزيز جودة الحياة، وتحقيق التكامل الاجتماعي، وخلق فرص اقتصادية جديدة تتجاوز النمط الاستهلاكي، لتلامس جوهر "الرفاه المجتمعي المستدام". هنا تبرز إمكانات القطاع غير الربحي كمحرك نوعي ومساند لمجالات الترفيه ذات الطابع القيمي والثقافي والوطني.
البعد الاقتصادي والاجتماعي للترفيه
أصبحت بيئة الترفيه في المملكة سوقًا متسارعًا يقدّر بمليارات الريالات، إلا أن الفجوة ما زالت قائمة بين احتياجات السكان وبين المحتوى الترفيهي المتاح، خاصة ذلك الذي يراعي الخصوصية الثقافية والشرعية. وهنا تحديدًا يتكئ القطاع غير الربحي على فرصة استراتيجية تتمثل في سد هذه الفجوة عبر تقديم محتوى ترفيهي تعليمي، آمن، ومسؤول. فالمخيمات الترفيهية، وبرامج الترفيه المنزلي، ومبادرات "ترفيه المرضى"، ليست مجرد أنشطة، بل أدوات تدخل في قلب معادلة التوازن بين النمو الاقتصادي وتماسك المجتمع.
تحولات الرؤية: الترفيه كرافعة للتكامل المؤسسي
تكشف التجربة الوطنية في السنوات الأخيرة عن تحوّل في فلسفة الترفيه من كونه استهلاكًا للفرد إلى كونه بنية تحتية اجتماعية تستهدف جميع فئات المجتمع: الأطفال، الشباب، المرضى، المسنين، والعائلات. وبرزت مبادرات غير ربحية تهدف إلى:
- تنظيم الفعاليات الثقافية والترفيهية التي تلبي احتياجات الفئة المحافظة في المجتمع.
- إنشاء منصات رقمية تفاعلية تعزز القيم.
- تأسيس مراكز "ترفيه هادف" توفر بيئة تربوية ترفيهية متكاملة.
ومع وجود نماذج رائدة مثل جمعية "أجيال الترفيه" و"جمعية تطوير الثقافة والترفيه"، أصبح واضحًا أن الجمعيات الأهلية لا تكتفي بالاستجابة للحاجات بل تساهم في إعادة تشكيل الثقافة الترفيهية السعودية.
الترفيه كاستثمار اجتماعي
الطرح الأكثر نضجًا في هذا السياق هو التعامل مع الترفيه كـ استثمار اجتماعي وليس فقط نشاطًا خيريًا. هذا التحول يتطلب إعادة هندسة نماذج الأعمال غير الربحية، بحيث تدخل في شراكات مع القطاع الخاص والحكومي، وتبني منصات تمويلية مبتكرة، وتوظف أدوات التسويق الاجتماعي للوصول إلى جمهور أوسع دون التفريط في المبادئ.
وتكشف تجارب منظمات عالمية مثل “Playworks” و“Serious Fun” عن جدوى الاستثمار في برامج الترفيه القيمي، بل وتحقيق أثر عالٍ في الصحة النفسية والسلوك المجتمعي والتحصيل الأكاديمي. وينبغي أن تُبنى تجارب سعودية مماثلة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية والدينية، دون أن تغفل عن أدوات القياس الحديث.
التحديات والفرص: ما بعد القبول المجتمعي
رغم تصاعد القبول المجتمعي لمفهوم "الترفيه النظيف"، ما زالت هناك تحديات كبرى، أبرزها:
- ضعف التأهيل المهني للعاملين في المجال الترفيهي غير الربحي.
- نقص البرامج الموجهة لفئات مهمشة كالمسنين وذوي الإعاقة والمرضى.
- غياب النماذج الممولة ذات الاستدامة المالية.
لكن هذه التحديات يمكن تحويلها إلى فرص، من خلال تطوير معايير وطنية للجودة الترفيهية، وتمكين الجمعيات من أدوات تخطيط البرامج، وربطها بمصادر التمويل الاجتماعي والصناديق الحكومية، وبخاصة هيئة الترفيه وصندوق التنمية الثقافية.
نحو خارطة طريق للترفيه المجتمعي
ثمة حاجة ملحة إلى تبني استراتيجية وطنية متكاملة لتفعيل دور القطاع غير الربحي في مجال الترفيه، تتضمن:
- إنشاء أكاديميات لتأهيل رواد الترفيه القيمي.
- تطوير شراكات مع مساحات الترفيه التجارية لاستثمارها في رسائل اجتماعية.
- تسويق التجارب غير الربحية الناجحة كقصص إلهام وطنية.
فالسؤال اليوم لم يعد: "هل نستثمر في الترفيه؟"، بل: "كيف نُعيد صياغته ليصبح منصة للهوية السعودية، ومرآة لقيمنا الحضارية، ورافعة لتحسين نوعية الحياة؟".
تحديات القطاع غير الربحي في المجالات النوعية (الرياضية، السياحية، الثقافية، الترفيهية): قراءة في السياق وفرص التحول
رغم التطورات الهيكلية والتنظيمية التي يشهدها القطاع غير الربحي في المملكة العربية السعودية ضمن مستهدفات رؤية 2030، فإن الجمعيات الأهلية العاملة في المجالات النوعية (الرياضية، السياحية، الثقافية، الترفيهية) لا تزال تواجه جملة من التحديات التي تُقوّض قدرتها على الأداء الفعّال والتمدد المجتمعي المستدام. تتقاطع هذه التحديات مع منظومة أعمق من الإشكالات البنيوية والتمويلية والسلوكية، وتستلزم معالجة استراتيجية تستند إلى بيانات دقيقة وتفكير ابتكاري يتجاوز الأساليب التقليدية.
1. شح الموارد التمويلية: معادلة غير متوازنة بين الاحتياج والدعم
تشير التجربة الميدانية إلى أن ضعف التمويل ليس فقط نتيجة قلة الموارد، بل يعكس غياب الثقة المؤسسية في هذه المجالات، وغياب نماذج عمل تبرهن على عائد اجتماعي واضح يمكن قياسه. المنح غالبًا ما تُوجّه للمجالات الكلاسيكية (الإغاثة، الصحة، التعليم)، بينما تُهمل المبادرات النوعية رغم أنها الأكثر التصاقًا بتحسين جودة الحياة وتعزيز رأس المال الاجتماعي.
2. محدودية الكفاءات: فجوة في التأهيل والتخصص
نقص الكوادر المؤهلة يمثل تحديًا مزمنًا، لا سيما في القطاعات الجديدة على العمل الأهلي. الجمعيات العاملة في الترفيه أو السياحة، على سبيل المثال، تجد صعوبة في استقطاب كوادر تجمع بين الحرفية المهنية والالتزام القيمي. وبدون استثمار منهجي في تأهيل العاملين، ستبقى هذه المجالات رهينة لاجتهادات فردية ومبادرات متقطعة.
3. هشاشة البنية التحتية: تحدٍ مادي ومعنوي
تعاني الجمعيات من محدودية في البنية التحتية، سواء من حيث المقرات أو الأدوات أو نظم التشغيل. ويزداد الأمر تعقيدًا حين يُطلب من الجمعيات تنظيم فعاليات جماهيرية أو برامج ترفيهية ذات طابع تقني دون تمكين حقيقي أو تسهيلات من الجهات المعنية.
4. غياب الوعي المجتمعي: مقاومة غير معلنة
رغم تغير الأنماط الحياتية، لا يزال جزء من المجتمع ينظر إلى العمل في مجالات مثل "الترفيه" أو "السياحة" بوصفها ترفًا لا حاجة له أو مجالًا محفوفًا بالشبهات. هذا الانطباع يعوق مشاركة المتطوعين، ويضعف التفاعل مع البرامج، ويجعل الجمعية في موقف دفاع دائم عن مشروعيتها الأخلاقية.
5. ضعف التسويق للبرامج: المحتوى الجيد لا يكفي
تعجز كثير من الجمعيات عن تسويق مبادراتها بشكل يتجاوز النشرات التعريفية والمطبوعات التقليدية. في بيئة رقمية عالية التنافس، فإن البرنامج غير المرئي هو برنامج غير موجود. ويُعدّ التسويق غير الربحي علمًا قائمًا بذاته، لا بد أن يُؤسس له عبر التدريب وبناء الشراكات مع وكالات متخصصة.
6. ضعف التنسيق الأفقي والرأسي: الجزر المعزولة لا تصنع قطاعًا
لا تزال العلاقة بين الجمعيات المتخصصة والجهات الحكومية أو المانحة تتسم بالضعف أو الغموض أو حتى الازدواج. ونتيجة لذلك، فإن الموارد تتبعثر، وتُكرر الجهود، وتتضخم البيروقراطية في غير محلها. التنسيق لا يعني فقط توقيع الشراكات، بل صياغة أطر عمل مرجعية مشتركة تخلق بيئة تشغيل متكاملة.
7. فجوة في استقطاب المتطوعين: حوافز غير مرئية، وأدوار غير مفهومة
ضعف جاذبية العمل التطوعي في المجالات النوعية يرجع إلى عاملين: الأول، عدم وضوح أدوار المتطوعين وحدود مسؤولياتهم؛ والثاني، غياب نظام حوافز متكامل يضمن الاعتراف بمساهماتهم ويحول الجهد الفردي إلى تجربة تنموية متكاملة.
نحو تجاوز التحديات: رؤية عملية
إن تجاوز هذه التحديات لا يكون بردّات فعل موسمية أو حملات إعلامية مؤقتة، بل بتبني مقاربة ثلاثية الأبعاد:
- تحويل النماذج: اعتماد نماذج تشغيل تستلهم من التجارب العالمية وتتكيف مع الواقع السعودي، كتحويل الجمعيات إلى مشغّلين محترفين للخدمات العامة عبر الإسناد الحكومي.
- إعادة هندسة الحوكمة: بناء مجالس إدارة قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية تعزز التخصص والتمكين المالي.
- بناء تحالفات تنموية: بين الجمعيات والقطاع الخاص وصناديق التنمية والجامعات، وفق مفهوم الاستثمار الاجتماعي لا التبرع العاطفي.
تحديات الجمعيات الأهلية في مجالات الثقافة والسياحة والرياضة والترفيه ليست عوائق بنيوية فقط، بل مؤشرات على الحاجة إلى ولادة جيل جديد من المنظمات غير الربحية: منظمات تُدار بالعقلية الريادية، وتُقاس بقدرتها على خلق القيمة المجتمعية، وتُحاكم بمعايير الجدوى لا النوايا فقط.
خارطة طريق عملية للقطاع غير الربحي في الثقافة والسياحة والترفيه والرياضة: نحو تفعيل مستهدفات رؤية 2030
يمثل الجمع بين مستهدفات رؤية السعودية 2030، وأجندة المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، فرصة نادرة لإعادة تصميم الدور الوطني للجمعيات الأهلية، لا بوصفها كيانات خدمية محدودة، بل بوصفها أذرعًا تنفيذية لمنظومة التنمية الشاملة. ولعلّ المجالات الأربع التي ناقشتها الورشة – الثقافة، السياحة، الترفيه، الرياضة – تُعد الأشد حاجة إلى خريطة طريق تطبيقية تعبر بها من التردد المؤسسي إلى الجدارة التنفيذية.
أولًا: المبادرة الثقافية – من استدامة الوعي إلى تمويل الهوية
الرؤية المشتركة: تعزيز الهوية الوطنية وتحويل الثقافة إلى صناعة ناعمة منتجة.
المبادرة المقترحة:
- إنشاء صناديق وقفية ثقافية تمول برامج القراءة، والموروث، والفنون البصرية.
- تحويل الجمعيات الثقافية إلى مراكز مجتمعية مستقلة تقدم خدمات بمقابل رمزي مدعوم حكوميًا.
- إطلاق برامج تأهيلية بالشراكة مع هيئة التراث ووزارة الثقافة، لدعم الرخص المهنية للعاملين الثقافيين.
الجهة الممكنة: وزارة الثقافة – المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي – وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية.
ثانيًا: المبادرة السياحية – من الفكرة إلى التجربة المتكاملة
الرؤية المشتركة: تطوير اقتصاد محلي متنوع ومستدام عبر السياحة المجتمعية.
المبادرة المقترحة:
- دعم تأسيس جمعيات تعاونية سياحية محلية بالشراكة مع مزارعين، حرفيين، ومرشدين.
- تمويل منصات رقمية غير ربحية لحجز الجولات وإبراز المعالم المحلية.
- تفعيل مسار خاص داخل استراتيجية المركز الوطني بعنوان: "السياحة كخدمة مجتمعية"، يُمكّن الجمعيات من إدارة المسارات السياحية ضمن عقود إسناد.
الجهة الممكنة: وزارة السياحة – المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي – بنك التنمية الاجتماعية.
ثالثًا: المبادرة الرياضية – من الهواية إلى الاستثمار القيمي
الرؤية المشتركة: رفع جودة الحياة وبناء مجتمع صحي ومتوازن.
المبادرة المقترحة:
- تأسيس أندية رياضية غير ربحية تعتمد على اشتراكات رمزية، وتدمج بين الرياضة والتوجيه النفسي.
- تطوير برنامج وطني لاكتشاف المواهب عبر الجمعيات، يرتبط مباشرة بوزارة الرياضة.
- تصميم نظام تحفيزي للمتطوعين الرياضيين (مدربين، حكّام، موجهين)، بالتنسيق مع المنصة الوطنية للعمل التطوعي.
الجهة الممكنة: وزارة الرياضة – الهيئة العامة للأوقاف – المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي.
رابعًا: المبادرة الترفيهية – من الفعالية إلى التأثير التربوي
الرؤية المشتركة: ترسيخ مفاهيم الترفيه الآمن، وتقديم بدائل ذات أثر تعليمي وقيمي.
المبادرة المقترحة:
- إطلاق سلسلة "مراكز ترفيهية غير ربحية" بالشراكة مع القطاع الخاص، تستهدف الأطفال والأسر.
- اعتماد تصنيف وطني للمبادرات الترفيهية القيمية، يرتبط بالدعم المالي والتمكين الإعلامي.
- تكوين تحالف وطني للجمعيات الترفيهية يشرف على تطوير المعايير ويقدم التوصيات للهيئة العامة للترفيه.
الجهة الممكنة: الهيئة العامة للترفيه – المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي – وزارة التعليم .
أداة التفعيل: بوابة الاستحقاق التنموي
تقترح الورشة – ضمن توصياتها المستخلصة – إنشاء "بوابة استحقاق تنموي"، تكون مرجعًا موحدًا لتقديم المبادرات، وطلب الدعم، وقياس الأثر، وتقييم الأداء. تتكامل هذه البوابة مع أنظمة التراخيص، ومسارات الحوكمة، ومنصات التمويل، بما يخلق بيئة تشغيلية مرنة ومنضبطة.
ختاماً: نحو عقد تنموي جديد
إذا أردنا في القطاع غير الربحي ممثلاً في الجمعيات الأهلية التابعة لـ المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي | National Center for Non-Profit Sector استثمار إمكانات القطاع غير الربحي في المسارات الأربع، فإن الانتقال من مرحلة "المشاركة الرمزية" إلى "التكليف التنفيذي" هو الخيار الحتمي. والخارطة أعلاه لا تمثل مجرد اقتراحات، بل إطارًا استراتيجيًا متكاملًا يمكن أن يوجّه خطط التمويل، والتشريع، والتأهيل، ويعيد تعريف العلاقة بين المجتمع المدني والدولة في ضوء عقد تنموي جديد.
- هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
