من هو المستفيد حقًّا؟ إعادة تعريف منهجيات العمل الاجتماعي في زمن الجمعيات التنموية

ع ع ع

يستند هذا المقال إلى ورقة معرفية للأستاذ محمد سحاري بعنوان «إشكالية منهجيات العمل الاجتماعي»، مع حفظ جميع الحقوق الأدبية للمؤلف ومصدر النشر الأصلي.

لو سألنا أي ممارس للعمل الاجتماعي: من هو المستفيد من خدماتكم؟
ستأتي الإجابة في الغالب بلا تردد: الإنسان، الفرد، الأسرة، الفئة المستهدفة.

هذا الجواب صحيح، لكنه لم يعد كافيًا.

مع التحولات الكبيرة التي يشهدها القطاع غير الربحي في المملكة، بدأت تظهر مؤسسات وجمعيات ومراكز لا تقدّم خدمة مباشرة للفرد، بل تعمل على تطوير الجمعيات نفسها: حوكمة، بناء قدرات، أتمتة، استدامة مالية، تطوير نماذج العمل والأثر.
هنا يطرح الأستاذ محمد سحاري سؤالًا جوهريًا في ورقته حول «إشكالية منهجيات العمل الاجتماعي»:
هل يجوز أن نواصل استخدام المنهجيات القديمة نفسها، وكأن المستفيد الوحيد هو الفرد، بينما جزء متزايد من الجهد والموارد يوجَّه نحو تنمية المنظمات؟

هذا المقال يحاول أن يقدّم قراءة إيجابية موسَّعة لهذه الفكرة، بوصفها فرصة لا أزمة: فرصة لإعادة تعريف منهجيات العمل الاجتماعي بما يعكس نضج القطاع السعودي اليوم.


الإرث الكلاسيكي: الإنسان في المركز… لكن الصورة ناقصة

المنهجيات العالمية في العمل الاجتماعي نشأت في سياقات ركّزت على مشكلات واضحة: فقر، أمية، مرض، تهميش.
من هنا، صُمّمت النظريات والأدوات، مثل نظرية التغيير، التخطيط بالمشاركة، التصميم المرتكز على الإنسان، لتجيب عن سؤال واحد تقريبًا:

كيف تتحسن حياة هذا الإنسان؟

فكرة «المستفيد» في هذه الأدبيات كانت واضحة جدًا:

  • تلميذ يتعلم.

  • مريض يتلقى علاجًا.

  • أسرة تحصل على دعم.

  • شاب يكتسب مهارات عمل.

كل ما لا يلامس حياة الفرد مباشرة يُدفع تلقائيًا إلى هامش «الدعم الإداري» أو «التشغيلي»: مهم، لكنه ليس لبّ العمل الاجتماعي.

مع الوقت، تحوّلت هذه الرؤية من منهجية إلى مسلمة لا تُسائل، حتى مع تغيّر بنية القطاع وأدواته وأدواره.


ما الذي تغيّر في المملكة؟

مع إطلاق رؤية السعودية 2030، وما تبعها من تنظيمات، بدأ القطاع غير الربحي يتحرك من نموذج «الجمعية الخدمية» إلى نموذج المنظومة التنموية:

  • لوائح حوكمة واضحة.

  • مؤشرات أداء ومساءلة.

  • صناديق ومنح تشترط خططًا واستراتيجيات.

  • تشجيع على الاندماج، وبناء الشراكات، والاستثمار الاجتماعي.

في هذا السياق، برزت كيانات جديدة أو تطورت كيانات قائمة:

  • جمعيات متخصصة في بناء قدرات الجمعيات الأخرى.

  • مراكز أبحاث ودراسات تخدم القطاع.

  • منصات رقمية تمكّن المنظمات من إدارة تبرعاتها وبرامجها بكفاءة أعلى.

  • مبادرات تركز على الحوكمة، والتحول الرقمي، وتطوير القيادات.

هذه الكيانات لا تقدّم بالضرورة خدمات مباشرة للفرد؛ مستفيدها المباشر هو «الجمعية» أو «المؤسسة»، لكن أثر عملها ينعكس في النهاية على الإنسان والمجتمع.

عند هذه النقطة، تصبح المنهجيات الكلاسيكية للعمل الاجتماعي عاجزة عن وصف الواقع الجديد:
هل الجمعية التي تتلقى خدمات تطويرية هي «مستفيد» أم مجرد «وسيط»؟
وهل يمكن اعتبار برامج الحوكمة وبناء القدرات «عملًا اجتماعيًا» بالمعنى الكامل، أم هي مجرد بنية فوقية؟


ثلاث دوائر للمستفيد: إعادة ترتيب المشهد

بدل الاكتفاء بسؤال: من المستفيد؟
تقترح الورقة، ويمكن البناء عليها، النظر إلى المستفيد ضمن ثلاث دوائر مترابطة:

  1. المستفيد النهائي:
    وهو الإنسان أو المجتمع الذي يصل إليه الأثر في نهاية سلسلة القيمة:

    • أسرة أقل هشاشة.

    • شاب أكثر جاهزية لسوق العمل.

    • مريض يحصل على خدمة صحية أفضل.

  2. المستفيد المؤسسي المباشر:
    وهي الجمعيات والمؤسسات غير الربحية التي تتلقى خدمات تطويرية:

    • تدريب مجلس الإدارة على الحوكمة.

    • إعادة تصميم الهيكل التنظيمي.

    • بناء نظام لإدارة المتطوعين أو إدارة المنح.
      هذه الجمعية ليست مجرّد قناة؛ هي كيان يتغيّر ويتقوّى، ويمكن قياس التحول في أدائه واستدامته.

  3. المستفيد المهني:
    وهم الكوادر والعاملون في القطاع:

    • مديرو البرامج.

    • مسؤولو تنمية الموارد.

    • الفرق المالية والإدارية.
      تنمية مهاراتهم ومعارفهم ليست رفاهية، بل جزء من الاستثمار في البنية التحتية للقطاع.

بهذا المنظور، لا يعود السؤال: من المستفيد؟
بل يصبح: كيف تتكامل هذه الدوائر الثلاث لصناعة أثر أعمق وأكثر استدامة؟


حين تصبح التنمية المؤسسية عملاً اجتماعيًا أصيلًا

واحدة من أهم الرسائل الإيجابية التي يمكن استلهامها من هذه الورقة هي:
أن برامج الحوكمة، وبناء القدرات، والتحول الرقمي، ليست «تكاليف إدارية» ينبغي تقليصها، بل هي عمل اجتماعي من نوع مختلف.

فالجمعية القوية، المحكومة، المستدامة ماليًا، والمهيكلة جيدًا، قادرة على أن:

  • تقدّم خدمات أفضل للمستفيدين النهائيين.

  • تحافظ على أثرها عبر السنوات بدل الانطفاء السريع.

  • تستخدم الموارد بكفاءة أعلى، فتحقّق «أثرًا أكبر لكل ريال».

إعادة تعريف المستفيد بهذه الطريقة تُبرّر استثمار المانحين وصناديق المنح في:

  • تطوير النماذج المالية للجمعيات.

  • بناء نظم معلومات ومتابعة وتقييم.

  • تطوير القيادات والكوادر الداخلية.

لا بوصفها «استثناءً» أو «حالة خاصة»، بل بوصفها مسارًا أصيلًا من مسارات العمل الاجتماعي.


ماذا يعني هذا التحول لصانعي القرار في القطاع؟

إعادة تعريف المستفيد ليست لعبة لغوية، بل تحمل آثارًا عملية على ثلاث جبهات رئيسية:

1. تصميم البرامج والمبادرات

برامج بناء القدرات لم تعد «ملحقًا» في الهامش، بل يمكن أن تكون:

  • برامج رئيسية في الاستراتيجية.

  • ذات أهداف واضحة وأثر محدّد على مستوى الجمعية.

  • مرتبطة بمؤشرات مثل: الاستدامة المالية، تنويع مصادر الدخل، قوة الحوكمة، جودة التقارير والبيانات.

2. سياسات المنح والتمويل

حين نرى الجمعية نفسها مستفيدًا:

  • يصبح تمويل التكاليف غير المباشرة (Overhead) جزءًا من صناعة الأثر، لا عبئًا عليه.

  • يمكن تصميم منح تستهدف رفع جاهزية الجمعيات في مناطق معينة، أو في مجالات بعينها (التحول الرقمي، الحوكمة، تنمية الموارد).

  • يُعاد تعريف «النجاح» في المنحة، ليشمل ما يحدث داخل الجمعية، لا فقط عدد الأسر المستفيدة.

3. قياس الأثر والتقارير

توسيع مفهوم المستفيد يفرض توسعًا في أدوات القياس:

  • ليست المؤشرات وحدها عدد المستفيدين النهائيين أو رضاهم.

  • بل أيضًا:

    • تحسّن هيكل الإيرادات.

    • انخفاض نسبة الاعتماد على مصدر واحد للتمويل.

    • تطور سياسات الحوكمة والالتزام بها.

    • زيادة قدرة الجمعية على التخطيط والتنفيذ والتعلم.

بهذا المعنى، تصبح التقارير السنوية وتقارير الأثر أكثر عمقًا وصدقًا؛ لأنها تروي قصة تحول جمعية كاملة، لا مجرد سرد لإنجازات متفرقة.


فرصة سعودية لصياغة نموذج عالمي جديد

التحول الجاري في القطاع غير الربحي السعودي لا يخص المملكة وحدها؛ إنه جزء من تحوّل عالمي أوسع نحو:

  • الاستثمار في بنية المنظمات.

  • النظر للقطاع غير الربحي بوصفه «شريكًا اقتصاديًا – اجتماعيًا» لا مجرد مزود خدمات خيرية.

لكن ما يميز الحالة السعودية أن هذا التحول يحدث في ظل:

  • رؤية وطنية واضحة.

  • بنية تنظيمية وتشريعية آخذة في الاكتمال.

  • نمو متسارع في عدد الجمعيات المتخصصة، ومنها جمعيات التطوير وبناء القدرات.

من هنا، يمكن للأفكار التي يطرحها الأستاذ محمد سحاري أن تتحوّل إلى إسهام سعودي في تطوير منهجيات العمل الاجتماعي عالميًا، لا مجرد تعديل داخلي في لغة النماذج والخطط.


نحو أفق أوسع: حين تجتمع الإنسان والجمعية في معادلة واحدة

إعادة تعريف المستفيد لا تعني إزاحة الإنسان من المركز؛ بل تعني توسيع الدائرة ليُرى الإنسان والجمعية معًا في معادلة واحدة:

  • إنسان يستحق حياة كريمة وخدمات لائقة.

  • وجمعية تستحق أن تُعامل بوصفها كيانًا يحتاج إلى تنمية حقيقية، حتى تستطيع أن تخدم هذا الإنسان.

عندما نستثمر في المنظمتين معًا:
الإنسان كمستفيد نهائي، والجمعية كمستفيد مؤسسي، ننتقل من منطق «المساعدة المؤقتة» إلى منطق البناء المتراكم للأثر.


من تعليق إلى تطبيق

الأفكار التي تطرحها هذه الورقة ليست مجرد نقاش نظري؛ يمكن تحويلها إلى ممارسات عملية داخل كل منظمة غير ربحية في المملكة عبر خطوات مثل:

  • مراجعة تعريف المستفيد في وثائق المنظمة ونظريتها للتغيير.

  • إدراج أهداف تنمية مؤسسية واضحة في الخطط الاستراتيجية.

  • التفاوض مع المانحين على تمويل يبني قدرات الجمعية لا برامجها فقط.

  • تطوير أدوات قياس أثر تلتقط ما يحدث داخل الجمعية، لا خارجها فقط.

بهذا المعنى، لا تعود «إشكالية منهجيات العمل الاجتماعي» عنوانًا لإرباك جديد، بل منطلقًا لمرحلة أكثر نضجًا في مسيرة القطاع غير الربحي السعودي، حيث يُعامل الإنسان والجمعية معًا بوصفهما طرفين أساسيين في معادلة الأثر.

  • هل كانت هذه المقالة مفيدة؟
  •    

scroll to top